كتب مبارك أردول القيادي في الكتلة الديمقراطية بعنوان “هجليج واختبار العقل السياسي: هل يصبح التفاهم حول الموارد مدخلًا لوقف الحرب وبداية العملية السياسية في السودان؟ قائلا: في حوارٍ تلفزيوني على قناة الجزيرة مباشر، خرج (مشكوراً) وزير الإعلام والاتصالات في جمهورية جنوب السودان السيد أتينج ويك أتينج إلى الرأي العام ليكشف بوضوح عن اتفاق تم التوصل إليه في منطقة هجليج، في تأكيدٍ مباشر لما كان قد أُعلن قبل ذلك بأيام في مخاطبة في حقل هجليج النفطي على لسان رئيس هيئة الأركان المشتركة لقوات دفاع جنوب السودان، الفريق أول بول نانق.
هذا التتابع العلني والمتسق في التصريحات لا يمكن قراءته باعتباره تواصلًا إعلاميًا عابرًا، بل يعكس واقعة سياسية قائمة بذاتها، تستحق أن تُناقش بهدوء وعقل مفتوح، بعيدًا عن الإنكار أو سوء الفهم.
وبغضّ النظر عن الصمت الرسمي من الجانب السوداني، فإن ما جرى في هجليج تجاوز حدود الخبر إلى مسألة سياسية ذات دلالات عميقة، تضع خطاب الحرب والهدنة الإنسانية أمام مراجعة ضرورية، لا من باب الإدانة، بل من باب إعادة ترتيب الأولويات الوطنية.
فالقضية هنا لا تتعلق بالنفط في ذاته، ولا باتفاق هجليج كحدثٍ معزول، وإنما بما يكشفه هذا الاتفاق من إمكانية التفاهم حين تلتقي المصالح الحيوية.
فإذا كان التوافق حول مورد اقتصادي استراتيجي كآبار النفط ممكنًا، وقابلًا للتفاوض، وسريع الوصول إلى صيغة عملية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بهدوء هو:
كيف يصعب، في المقابل، الوصول إلى هدنة إنسانية تخفف عن المدنيين وطأة الحرب؟
لقد ساد في الفترات الماضية خطاب يرى أن الهدنة الإنسانية رهينة لشروط مسبقة معقدة ومستحيلة، أو لواقع ميداني لا يسمح بها. غير أن تجربة هجليج، في حد ذاتها، تشير إلى أن توفر الإرادة السياسية كفيل بتذليل العقبات، وتجاوز الاشتراطات، وفتح مسارات كانت تبدو مغلقة.
ولا تكمن أهمية اتفاق هجليج في نصّه فقط، بل في دلالته السياسية والأخلاقية. فهو يبعث برسالة مفادها أن التفاهم ممكن، وأن الحرب ليست قدرًا محتومًا، وأن حماية المصالح لا ينبغي أن تنفصل عن حماية الأرواح.
فالنفط، مهما بلغت أهميته الاقتصادية، لا يمكن أن يكون أعلى قيمة من الدم السوداني، ولا يجوز أن يسبق حقوله حق المدنيين في الأمان والحياة.
ومن هذا المنطلق، فإن المطلوب ليس التراجع عن اتفاق هجليج، بل تثبيته والبناء عليه، باعتباره خطوة واقعية يمكن توسيع دائرتها. غير أن الخطأ الذي ينبغي التحذير منه هو فصل التفاهمات الاقتصادية عن المسار الإنساني والسياسي الشامل، أو الاكتفاء بإدارة الموارد دون معالجة جذور الصراع.
وهنا تبرز تجربة ليبيا كنموذج تحذيري بالغ الدلالة.
ففي ليبيا، اختلفت حكومتي السراج وحفتر، وتصارعت القوى المسلحة الموالية لهما، وتباينت الرؤى إلى حد الاقتتال، لكن الشيء الوحيد الذي ظل محل توافق وتوحّد هو تقاسم موارد النفط والمؤسسات المرتبطة به. والنتيجة كانت دولة تُدار مواردها دون أن تُدار أزمتها السياسية، فاستمر الانقسام، وتجمّدت الدولة، وتحوّل النفط من نعمة إلى عامل تثبيت للأزمة.
وهو نموذج ينبغي للسودان أن يتجنبه بوعيٍ مبكر.
إن اتفاق هجليج يمكن — إذا أُحسن استثماره — أن يكون مدخلًا لا استثناءً:
مدخلًا لوقف شامل للحرب،
ومدخلًا لقبول هدنة إنسانية عاجلة،
ومدخلًا لفتح أفق عملية سياسية جادة، شفافة وشاملة، ولا تُبنى على منطق الغلبة، بل على منطق الدولة والسلام والتوافق.
قد تكون هجليج قد جاءت في لحظة حرجة، لكن التاريخ علّمنا أن اللحظات الحرجة كثيرًا ما تحمل فرصًا غير متوقعة.
ولعلّ في هذه الواقعة ما يدعو إلى تغليب العقل، وتقديم الإنسان، وتحويل التفاهم حول الموارد إلى بداية طريق نحو سلام شامل.
ولربّ ضارّة نافعة








