اخبار

التعليم العالي تصدر بيانًا بشأن قرار أثار جدلًا حول الشهادات الجامعية

قالت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إن قرار الأخير بشأن ضوابط توثيق الشهادات الجامعية المطبوعة بصيغة PDF أثار جدلاً واسعاً، صورّه البعض كتراجع عن ركب الحداثة. إلا أن القراءة الفاحصة لهذا القرار، بعيداً عن السطحية التقنية، تكشف عن رؤية استراتيجية تهدف إلى حماية “الشهادة الجامعية السودانية” كوثيقة سيادية، وحماية مستقبل الخريج من الوقوع في فخ الأنظمة الهشة التي تدّعي الحداثة، وهي تفتقر لأدنى معايير الأمان الرقمي.

أولاً: صيانة السيادة الأكاديمية وضبط التفاوت التقني

يجب قراءة قرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بعدم توثيق واعتماد الشهادات الإلكترونية ذات التوقيع الهش على أنه إجراء وقائي وحاسم لحماية السيادة الأكاديمية الوطنية (National Academic Sovereignty) وفي هذا الإطار، نشأت فجوة تقنية واسعة بين الممارسات العالمية والمحلية؛ حيث تعتمد الجامعات العالمية على نُظم التوقيع الرقمي المشفر المتين (Robust Digital Signature)، بينما اكتفت بعض المؤسسات المحلية بتحويل الوثائق إلى ملفات رقمية تحمل مجرد صورة رقمية للتوقيع.(Scanned Image) هذا التفاوت أدى إلى نشوء مأزق تأميني يهدد المصداقية الكلية للشهادة الجامعية بسبب سهولة تزوير الشهادات الصادرة بالنظم الضعيفة. فكان القرار بمثابة إجراء ضروري لوقف انتشار الوثائق الهشة، مما يضمن قوة النظم التشريعية والتقنية لمؤسسات التعليم العالي.

ومما يجدر ذكره في هذا الشأن، أن التوقيع الرقمي (Digital Signature) هو تقنية رياضية (Mathematical Technique) تستخدم التشفير غير المتماثل (Asymmetric Cryptography) لضمان ثلاث خصائص تأمينية محورية للوثائق الإلكترونية: الأصالة (Authenticity)، السلامة (Integrity)، وعدم الإنكار (Non-

Repudiation) . ويتم إنشاء التوقيع عبر دمج آليتين أساسيتين:

(أ): يتم تمرير المستند الأصلي عبر دالة التجزئة (Hash Function) مثل (SHA-256) لإنشاء قيمة فريدة وثابتة تُسمى ملخص الرسالة (Message Digest) أو التجزئة .(Hash Value)

(ب): يتم تشفير هذه التجزئة باستخدام المفتاح الخاص (Private Key) السري للمُوقِّع. والقيمة المشفرة هي التي تُمثل التوقيع الرقمي النهائي. وعند التحقق، يُستخدم المفتاح العام (Public Key) لفك التشفير والمقارنة.

إن الفرق الجوهري بين التوقيع المشفر وصورة التوقيع يكمن في الآلية التأمينية؛ حيث لا توفر صورة التوقيع أي دليل تشفيري (Cryptographic Proof) على الأصالة أو السلامة، حيث يمكن بسهولة قص ولصق الصورة أو تعديل محتوى الوثيقة دون أن يكتشف الطرف المُستقبل ذلك. وفي هذا الشأن، يهدف قرار الوزارة إلى فرض معايير البنية التحتية للمفتاح العام (Public Key Infrastructure – PKI) على المؤسسات التعليمية. وهذا يضمن أن تكون الشهادة الإلكترونية المعتمدة وثيقة غير قابلة للتزوير (Tamper-proof) من الناحية التشفيرية، مما يحافظ على قيمة وشرعية المؤهلات الوطنية.

ثانياً: مغالطة التوصيف.. التوقيع الإلكتروني مقابل “الرقمنة الصورية”

  • الخلط البنيوي بين المفهوم والممارسة:

يرتكز الجدل المثار حول قرار الوزارة على خلط بنيوي (Structural Confusion) بين مفهوم “التوقيع الرقمي المشفر” (Digital Signature) وبين ما يُمارس حالياً في بعض مؤسسات التعليم العالي تحت اسم “الرقمنة الصورية” (Pictorial Digitization). إن ما يوصف بـ “التوقيع الإلكتروني” محلياً هو في الواقع مجرد صورة توقيع (Scanned Signature) يتم لصقها آلياً أو يدوياً. هذا الإجراء، تقنياً، لا يمنح الوثيقة أي حصانة؛ بل يجعلها عرضة للتزوير الاحترافي ببرامج معالجة الصور، حيث يمكن بسهولة قص الصورة وتعديل محتوى الوثيقة دون ترك أثر تشفيري.

الآلية التأمينية، من الشكل إلى الجوهر:

يكمن الفرق الجوهري في الآلية الأمنية المعتمدة. فالجامعات العالمية الرائدة (مثل هارفارد وأوكسفورد) تعتمد على تقنيات بنية المفتاح العام (Public Key Infrastructure – PKI) هذه التقنية تربط التوقيع بمحتوى الوثيقة عبر رابط رياضي مشفر، حيث يتم تشفير بصمة الوثيقة (Hash Value) باستخدام المفتاح الخاص للمُصدر. هذا يولد “البصمة الرقمية” (Digital Fingerprint) التي تضمن السلامة (Integrity) والأصالة (Authenticity)، وتمنع التلاعب بالنتائج أو الأسماء بشكل مطلق.

قرار الوزارة تحول من الشكلية إلى الجوهرية:

في المقابل، تفتقر الأنظمة المحلية التي تعتمد على الصور إلى هذه البنية التشفيرية، حيث إن صورة التوقيع هي مجرد بيانات بصرية ولا توفر أي دليل تشفيري (Cryptographic Proof) على صحة الوثيقة. لذلك، فإن رفض الوزارة هو إجراء “ضبط جودة” (Quality Control) يهدف إلى فرض معايير البنية التحتية للمفتاح العام (PKI) على مؤسسات التعليم العالي، مما يضمن أن تكون الشهادة الإلكترونية المعتمدة وثيقة غير قابلة للتزوير (Tamper-proof) من الناحية التشفيرية. هذا القرار يمثل تحولاً جذرياً من “الرقمنة الشكلية” إلى “الرقمنة الجوهرية” التي تبني الثقة، وتمنع شرعنة وثائق هشة قد تنهار مصداقيتها في أول فحص مهني دولي.

تحدي المصداقية المؤسسية والتضليل:

ما يُثار حالياً على الوسائط الإلكترونية لا يخرج عن كونه إما تضليلاً للرأي العام أو جهلاً حقيقياً بالمرتكزات الفنية والتقنية لعمل كل من (QR Code) المركب والتوقيع الإلكتروني. ولزيادة الإبانة، بعض المؤسسات التي يُفترض فيها العراقة الرقمية نجد أن مرجعية البريد الإلكتروني للتحقق يعود إلى بريد إلكتروني شخصي (غير رسمي)، مما يعد خصماً حقيقياً لقيمة المؤسسية (Institutional Value) ويؤكد الحاجة الملحة لتبني معايير رقمية موحدة وعالية.

ثالثاً: رمز الاستجابة السريعة (QR) وتحدي “المصداقية المشروطة”

إن استخدام ـ (QR Code) الثابت الذي يعمل به حالياً في بعض مؤسسات التعليم العالي يعرض الشهادات للتزوير والتلاعب مما يضع المؤسسة والطلاب والوزارة أمام مخاطر قانونية وأخلاقية كبيرة لذا فان الاستشهاد به يعتبر قصوراً فنياً.

إن الموثوقية تتحقق باستخدام (QR Code) الديناميكي والذي يتجاوز مجرد الربط الخارجي ليشمل تخزين البيانات الأساسية مشفرة داخلياً للتحقق الأولي دون اتصال، وتضمين توقيع رقمي فريد يؤكد سلامة المصدر

إن المشكلة لا تكمن في التقنية بحد ذاتها، بل في ربطها بـ أنظمة فرعية ومجزأة. فالرمز لا قيمة له ولا يوفر السلامة (Integrity) أو الأصالة (Authenticity) المطلوبة إذا لم يكن مرتبطاً بـ “منصة وطنية مركزية (Central National Platform)” تضمن استدامة البيانات وصحتها على المدى الطويل. الاعتماد على (QR Code) مرتبط بسيرفر محلي داخل جامعة هو مغامرة بمستقبل الخريج، لأن هذه الأنظمة تخلق “وثائق موثوقة ظاهرياً لكنها ناقصة جوهراً في ظل غياب انطلاق هذا (QR Code) من قاعدة بيانات مركزية للشهادات على مستوى الدولة (المنصة الوطنية) يحول كل جامعة إلى “جزيرة رقمية” (Digital Island)، مما يحد من موثوقية التحقق ويخلق مصداقية مشروطة (Conditional Credibility) بالبيئة المحلية للجامعة فقط.

إن قرار إيقاف توثيق الشهادات الإلكترونية بشكلها الحالي هو خطوة إجرائية حكيمة تهدف إلى تمهيد الطريق للإسراع في إطلاق المنصة الوطنية المركزية الموحدة . رؤية الوزارة تتجاوز “قشرة الرمز (The Code Shell)

إلى “عمق البيانات” (Data Depth) ، وتتجه نحو بناء نظام مؤسسي متكامل يحقق المعايير الدولية:

  • تطوير (QR Code) الذكي متعدد الطبقات والذي لا يقتصر على مجرد الربط الخارجي، ليشمل تخزين البيانات الأساسية مشفرة داخلياً (Cryptographically Encrypted) للتحقق الأولي دون اتصال، وتضمين توقيع رقمي فريد (Unique Digital Signature) يؤكد سلامة المصدر.

هذا القرار هو خطوة أولى ضمن مسار منهجي للبناء المؤسسي يضمن أن تكون الشهادة الجامعية السودانية قابلة للتحقق الفوري والموثوق (Instant and Reliable Verification) من أي مكان في العالم عبر منصة سيادية واحدة، بدلاً من نظام مجزأ غير مستدام.

رابعاً: المسؤولية الوطنية وحماية حقوق الخريجين في الأسواق التنافسية

إن التأسيس للتحول الرقمي ليس “تطبيقاً” يُحمل على الهواتف، بل هو منظومة تبدأ بالتشريعات والقوانين المنظمة للمعاملات الإلكترونية، وتنتهي ببنية تحتية تقنية صلبة. وفي ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، يصبح التمسك بمعايير التوثيق التقليدي الصارمة واجباً وطنياً لحماية “سمعة التعليم السوداني”. الوزارة لا تعرقل التطور، بل ترفض “التحول الرقمي الزائف” الذي يكتفي بالمظهر. عندما ترفض الوزارة توثيق شهادة إلكترونية ذات بنية ضعيفة، فإنها في الواقع تحمي الخريج من مخاطر:

تأخر الاعتراف المحلي والإقليمي والعالمي.

الإضرار بالسمعة الجماعية: فوجود حالة تزوير واحدة مكتشفة في سوق العمل بسبب ضعف النظم، يهدد سمعة جميع الخريجين السودانيين.

إن الوزارة تؤسس لواقع رقمي يحمي الخريج السوداني في أسواق العمل عبر ضمان أن تكون بياناته مستمدة من سجلات المنصة الوطنية ، مما يغلق الباب نهائياً أمام أي تحفظات تجاه الشهادات التي تحمل توقيعات آلية غير مشفرة. وقد تمثلت خطوات الوزارة في هذا التحول في ربط 25 قنصلية سودانية بالخارج بنظام تأكيد صحة الشهادات، مما قلص زمن التحقق من أسابيع إلى ساعات.

خامسا : قرار تأسيسي يهدف للريادة الرقمية

إن تعريف الشهادة الجامعية يجب أن يظل محكوماً بالمعايير التقنية والأكاديمية. وقرار الوزارة الأخير هو دعوة لاستكمال بناء القاعدة الرقمية الحقيقية، وليس التوقف عن التطور. نحن نمضي وفق موجهات الحكومة الإلكترونية (حكومة الأمل) نحو مستقبل تكون فيه الشهادة السودانية رمزاً للدقة والموثوقية الرقمية، بعيداً عن الحلول الجزئية التي تفتقر لأدوات الحماية القانونية والتقنية.

الخاتمة: مساعي الوزارة بين الإنجاز الملموس وتحدي الشراكة الرقمية

لقد برهنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بجهودها الدؤوبة قبل وبعد اندلاع حرب 15 أبريل 2023، على قدرة استثنائية على المضي قدمًا بخطوات متسارعة نحو التحول الرقمي الشامل. هدف هذه المساعي هو تحويل عملية التوثيق من عائق بيروقراطي إلى خدمة سيادية سريعة، موثوقة، ومؤمنة.

الإنجازات الرقمية الاستثنائية للوزارة:

  • حماية البيانات السيادية: نجحت الوزارة في نسخ وحماية قواعد بياناتها الضخمة، بما يضمن استمرارية خدمات التعليم العالي.
  • استئناف الخدمات الحيوية: أعيد إطلاق الخدمات الأساسية فوراً في ولايات النزوح والمقرات المؤقتة، مع تطوير أنظمة متقدمة لخدمة المغتربين والتحقق الفوري من الشهادات بالتعاون مع البعثات الدبلوماسية والقنصليات.
  • دعم الجامعات المتضررة: تجاوزت الوزارة دورها التقليدي بتزويد معظم الجامعات المتضررة بنسخ من قواعد بيانات طلابها وخريجيها، الأمر الذي كان حاسماً في تمكينها من استئناف مسيرتها التعليمية وخدمات استخراج الشهادات في مواقعها البديلة داخل وخارج السودان. هذا الإجراء أثبت القيمة الاستراتيجية لإيداع بيانات الخريجين مركزيًا، وهو ما عكس قصورًا في الفهم الضيق لـ “الاستقلالية” لدى بعض مؤسسات التعليم العالي، بينما استثمرت المؤسسات التي أودعت بيانات خريجيها مركزياً في استمرار خدماتها بكفاءة عالية.

استمرارية العمليات الأساسية: إن النجاح في إنجاز عشر مراحل للقبول الجامعي في ظرف خمسة أشهر، وتأسيس مراكز توثيق متكاملة في (مدني، كسلا، بورتسودان، وأمدرمان)، ثم الانتقال إلى المقر الرئيس بالخرطوم ، بالإضافة إلى تحقيق الربط الإلكتروني الفعال والمستدام مع جميع المؤسسات الجامعية عدد (172 مؤسسة) داخل وخارج السودان يعكس مدى التقدم الكبير المحرز في البنية التحتية الرقمية للوزارة.

التحدي الماثل: ضرورة التزام الشركاء

رغم القفزات النوعية التي حققتها الوزارة، حيث تجاوزت نسبة التحول الرقمي في بعض إداراتها نسبة مشرفة، فإن الوصول إلى منظومة رقمية متكاملة ومحصنة يتوقف بشكل حاسم على درجة التزام جميع الأطراف. بينما تعمل الوزارة على بناء النظام الرقمي المشفر والمنصة المركزية الموحدة، يظل فهم وسرعة استجابة العديد من المؤسسات، وبالأخص الجامعات الكبرى، لمتطلبات الربط الإلكتروني (E-linkage) وتحديث أنظمتها الداخلية لتتوافق مع قواعد البيانات المركزية بالوزارة هو من التحديات الماثلة .

إن أي قرار تتخذه الوزارة ينطلق من حزمة من الأهداف الاستراتيجية والقيم الحمائية التي تهدف إلى صون سمعة مؤسسات التعليم العالي ووثائقها الجامعية من أي مخاطر قانونية أو أخلاقية. وتود الوزارة أن توضح للرأي العام أن قرارها المتعلق بالتوثيق لم يكن وليد اللحظة، بل كان نتاجاً لتحليل عميق للمخاطر المترتبة على التوقيعات الهشة. كما أن الوزارة لم تتوقف عند نقطة المنع؛ ولو تحلى الناشرون بالمهنية، لأشاروا إلى مجموعة الموجهات والخطط التفصيلية التي تؤسس لمرحلة جديدة من التوثيق تبدأ اعتباراً من يناير 2026م.

تؤكد الوزارة على أن الإدارة العامة للقبول وتقويم وتوثيق الشهادات، بصفتها الإدارة القائمة على أمر توثيق وتأكيد صحة الشهادات، على استعداد تام لتمليك الرأي العام أي معلومة تخص الخطوات المنجزة في مسار التحول إلى التوثيق الإلكتروني بمعناه الحقيقي، وليس ذلك المفهوم السطحي والمضلل الذي يروج له البعض

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى