مقالات الرأى

عزمي عبد الرازق يكتب … ربيع جهاز المخابرات العامة

هأنذا أتمشى في أحد شوارع الخرطوم، نفس الشارع الذي شهد معركة حامية قبل عام تقريباً، لمستُ الأرض لمساً خفيفاً، ثمّة سيارة تنهب الطريق نهبا، وبائع خضار يجول بكارو حصان، هنالك طفلةٌ جميلة تضحك في حبور وتداعب بأصبعها الغضة بالونٍ أحمر، ينفلت منها في سماء المدينة العائدة إلى حضن الوطن. قلتُ في سري: يا إلهي! أطفالٌ بعد خوف. فجأة صحت الكهارب في الشوارع كما يغني عركي الذي رفض مغادرة بيته في أم درمان، وبطريقة درويشية”أمامك الغروب، عند فوهة الوقت..” ربتَ أحدهم على كتفي، قال بصوتٍ سبق العقل إلى الوجدان: “حاسب، هنا استُشهد أحد أبطال معركة الكرامة.”وطفق يُحدثني عن تلك الأيام التي كان فيها هذا الشارع يشهد آخر المواجهات بين قواتنا وعناصر المليشيا؛ كيف صمد الرجال، بين الصبر واليقين، وكيف اختلط التراب بالدم، وكيف نبتت هذه الشجرة من جسد شهيدٍ ما زال دمه الأشد توهجاً يسقي فينا الحياة، ولك أن تتخيّله، قبل أن ينطق بالشهادتين، حين ألهب في رفاقه الحماس بالعبارة الأشهر والملهمة “أمن يا جن!”
وربما تحتاج، يا صديقي، أن تُدرك ثمن العودة وكلفة التحرير، أن تُدرك كيف أن ثمة رجالًا لا تراهم، لكنهم حولك، يحملون عنك عبء المسير، يحمون متجرك، هاتفك، جارك الطيب، حبيبتك الجميلة، والممرضة التي تبتسم في وجهك، المدينة التي تنام مطمئنة، المساجد التي تنطلق بالتكبير، فالحياةُ عادت بفضل هؤلاء الأبطال، بعون الله.
حين تعبر جسر المنشية، وتغمر وجهك نسمات النيل، فاعلم أن هذه الأضواء المنهمرة هي شمس الصباح و”الصباح رباح شمسك يا وطني”، قلها بيقين: كنا وين وبقينا وين. فهو إذن المشهد ذاته في جبل موية والجيلي، التكِينة ومكركا، حلة فوق وسنجة، القطينة، في أم روابة ومدني، تستطيع أن تسافر إلى أي مكان بسيارتك أو بالبص، أو بالركشة إن شئت، ولا تخشى سوى رجال المرور وأنثى الأنفولس.
وإذ يواصل الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل قيادة جهاز المخابرات بعد تجديد الثقة فيه، تشعر بطمأنينةٍ عميقة؛ فكل ضباط وجنود هذا الجهاز في منتهى الوطنية والتجرّد، معظمهم، إن لم يكن جميعهم، لم يأخذوا إجازة منذ بداية الحرب، يعملون بتفاني كي تنعم أنت بجولتك هذه في شارع النيل، أو تسافر مطمئنًا إلى فداسي والقضارف أو بورتسودان، ثم تعود قافلًا إلى الأبيض، فهنالك من يسهر لتبقى أنت آمناً، قد لا تعرفه، لكنه يعرفك، ولربما يربت على كتفك كما فعل معي ذلك الضابط أو الجندي المجهول.
لقد كان دور جهاز المخابرات في معركة الكرامة متعاظماً، قيادته، إذ تبدو بين الفريق مفضل ونائبه وآخرين لا نعرفهم، يفهمها اللبيب بالإشارة. في غاية التناغم، قبل وبعد بيعة جبل سركاب وحتى اليوم، يقود الجهاز عملياتٍ دقيقة، واختراقاتٍ في جبهات التمرد، وتنسيقياتٍ نجحت في تفكيك الاصطفاف الإثني الذي حاول آل دقلو صناعته وصرفوا عليه ملايين الدولارات، والكثير من الرشاوى والسيارات الفارهة، فالحرب ليست ضد قبيلةٍ أو بطن وفخذ بيتٍ، بل ضد من حمل السلاح واعتدى على المدنيين ونهب القرى وارتكب الجرائم، ولذا نحتاج إلى سرديةٍ وطنيةٍ واحدة تؤكد على أن السودان لا يرفض السلام، بل يرفض العدوان، ويواجه مشروعاً خارجياً خبيثاً يسعى لتقسيمه تحت عناوين براقة، وحيل ماكرة.
الحمد لله، عاد جهاز المخابرات العامة أكثر تماسكاً ونضجاً، يبسط ظلّه على الأمن وحماية الحياة، يبدّد المخاوف، يضبط إيقاع الدولة، ويحصّنها من الاختراقات والوجود الأجنبي غير المقنّن، وها هم رفاق الشهيد عمر النعمان، ومن سبقوه ومن لحقوا به، هنا وهناك، يعملون بذات التجرّد، بلا أجندةٍ حزبية أو سياسية، يعملون بمهنية واحترافية، وذلك بالرغم من أن البعض حاول شيطنتهم في زمن الهياج الثوري، وأراد كسر هذا الطوق ليسرح العملاء وتعم الفوضى، لكن الأيام أثبتت أن هؤلاء الرجال يحرسون الدولة لا الحزب، وأن الجهاز خرج من محنته أكثر رسوخاً وإيماناً بادواره الوطنية.
تذكّرنا هذه الأحداث بمسلسل ربيع قرطبة، وأيام أبي عامر في الأندلس، ذلك الرجل الذي ظهر في زمن الاضطراب، فحوّل الخلافة الأموية في الأندلس إلى نموذجٍ إداريٍ عظيم، نظّم الجيش، وأعاد الثقة إلى الناس، فازدهرت قرطبة في عهده حتى سُمّي زمنه بـ”ربيع قرطبة”.
قد تصلح هذه المقاربة داخل قيادة الجيش وجهاز المخابرات تحديداً، فالمنصور لم يكن صاخبا في حضوره، بل حاضراً في فعله، يُسيّر الدولة من خلف الستار بعقلٍ مدنيٍ راشدٍ وروح أمنيةٍ متيقظة، حتى أصبحت الأندلس منارةً للعلم والنظام والكرامة، ومثلما كان “ربيع قرطبة” زمن المنصور رمزاً لازدهار الدولة واستقرارها، فإن السودان اليوم يتطلع إلى ربيعه الأمني، على أيدي رجالٍ أدركوا أن بقاء الوطن دونه المهج الأرواح، وأن نهضته وكرامته أسمى غاية.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى