مقالات الرأى

الدعم السريع و4 سيناريوهات متوقعة في السودان

كتب د. ياسر يوسف إبراهيم.. نقلاً عن الجزيرة نت

كان الهدف السياسي من احتلال منازل المواطنين، هو إرغام الجيش على القبول بشروط المليشيا والإذعان لإملاءاتها (وكالات)
لا يمكن بأي حال تقليل خطورة الخطوة التي أقدمت عليها مليشيا الدعم السريع وحلفاؤها في تحالف “تأسيس” بتكوين حكومة موازية في دارفور وبعض مناطق إقليم كردفان، على مستقبل وحدة السودان واستقراره، إذ تُحيي هذه الخطوة مخاوف قديمة من إمكانية انفصال جديد في هذا البلد الذي مزقته الحروب والنزاعات، وشهد انفصال جنوب السودان عام 2011 بعد حرب استمرت عقودا متطاولة.

كما أن هذه الخطوة تأتي في سياق ضعف عام يعتري الدولة السودانية برمتها، فقد وصلت كل الأحزاب نتيجة الصراعات والانقسامات الداخلية إلى مرحلة من الضعف والعجز تمنعها من قيادة أي مبادرة ذات تأثير على المسار المخيف الذي تنزلق إليه البلاد.

أما الجيش كأقوى مؤسسة يُناط بها الحفاظ على التراب الوطني كاملا، فقد ظل في حالة حرب منذ استقلال السودان قبل سبعين عاما، ويخشى أن تؤثر المؤامرات الداخلية والخارجية في قدرته على تحمل هذه الأثقال التي تنوء بحملها الجبال الراسيات.

حين اندلعت الحرب الحالية قبل ما يقارب ثلاث سنوات، كان هدف المليشيا والمتحالفين معها سرّا وعلانية، هو تنفيذ انقلاب خاطف تسيطر به على السلطة المركزية، ومن ثم تباشر التغييرات الاجتماعية التي حملتها مشاريع قوى الحرية والتغيير من تفكيك للجيش الوطني، وتغيير في ثقافة أهل السودان عبر التشريعات والمناهج الدراسية وغيرها.

ولكن وبما أن ذلك المشروع قد سقط تحت صمود أبطال القوات المسلحة والتفاف المواطنين خلف جيشهم الوطني، فإن المليشيا لجأت إلى خطة ماكرة وشيطانية، وهي احتلال منازل المواطنين ونهب ممتلكاتهم عبر مخطط مدروس للإفقار الشامل.

وطورت مع ذلك خطابا عنصريا مفاده أنها تستهدف إنهاء دولة 56، وهو تاريخ إعلان استقلال السودان، حيث تزعم أن قوى اجتماعية محددة ظلت تسيطر على السلطة والثروة، وهو ادعاء تكذبه حقائق الواقع، حيث كان حميدتي نفسه يوم اندلاع الحرب نائبا لرئيس مجلس السيادة، ومن أغنى أغنياء السودان.

وكان الهدف السياسي من احتلال منازل المواطنين، هو إرغام الجيش على القبول بشروط المليشيا والإذعان لإملاءاتها، ولما لم يتحقق لها شيء من ذلك، وشرع الجيش، مدعوما بالشعب، في قيادة أكبر ملحمة للتحرير وطرد المليشيا، واستعاد ولاية الجزيرة وقبلها سنار وسط السودان، استيقنت قيادة المليشيا أنها مهزومة، وأن مشروعها إلى بوار، يومها خرج قائدها حميدتي في تسجيل مصوّر ليقول إنهم سيلجؤُون إلى الخطة (ب).

وبما أنه لم يشرح ما يعنيه بالخطة (ب) فقد تعددت الاجتهادات لتفسير مقصده، واتضح لاحقا أن ما يعنيه حميدتي هو التخلي عن حلم السيطرة على كل السودان والتركيز على إقليم دارفور، ولسان حاله يقول؛ (إذا فشلنا في حكم السودان فيجب ألا نقنع من الغنيمة بالإياب).

ومنذ ذلك الوقت صعّدت المليشيا من هجماتها على الفاشر العاصمة التاريخية للإقليم، وفرضت عليها حصارا مطبقا تجاوز 500 يوم حاليا، ورفضت الانصياع لقرار مجلس الأمن رقم 2736 بفك الحصار عن الفاشر، هذه الخطوة ذكّرت السودانيين بما أقدمت عليه الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت تسعى لحكم كل السودان، وبعد وفاة مؤسسها جون قرنق في حادث طائرة انكفأت الحركة جنوبا، وركزت على العمل من أجل انفصال جنوب السودان.

دارفور.. مقومات الدولة ومخاوف الانفصال
تقع دارفور غربي السودان، وتساوي مساحتها ربع مساحة السودان بحجم يساوي مساحة دولة فرنسا، ويبلغ سكانها 6 ملايين نسمة، وقد تم تقسيمها إلى خمس ولايات، تسيطر مليشيا الدعم السريع حاليا على أربع ولايات بالكامل، بينما تتقاسم السيطرة مع الحكومة في ولاية شمال دارفور، وتفرض حصارا خانقا على عاصمتها الفاشر.

وتمتلك دارفور أراضي زراعية تتميز بالخصوبة العالية وإنتاج المحاصيل المختلفة، بما فيها الموالح والفواكه المتعددة، كما أنها تمتلك ثروة حيوانية ضخمة بجانب اختزانها 6 بحيرات من المياه الجوفية، ومعادن مهمة لم يتم استخراجها، مثل الحديد، والنحاس، واليورانيوم، والكروم، والغرانيت.

وفي السنوات القليلة الماضية تم اكتشاف الذهب بكميات كبيرة، وخاصة في منطقة جبل عامر الذي سيطرت عليه مليشيا الدعم السريع، وجنت منه أموالا طائلة كانت الأساس في إمبراطوريتها المالية منذ عهد النظام السابق.

ويُعزى كثير من أسباب النزاعات إلى الصراع على الموارد، حيث قامت شركات أميركية وفرنسية بإجراء أعمال المسح الجيولوجي في الإقليم، وكانت نتائجها توفّر كميات كبيرة من النفط في الإقليم.

وفي 2003 اندلعت الحرب في الإقليم بين الحكومة السودانية، وحركات من دارفور، هي: حركة تحرير السودان التي انقسمت لاحقا بنفس الاسم، حركة برئاسة عبدالواحد محمد نور المنحدر من قبيلة الفور، وحركة أخرى برئاسة مني أركو مناوي رئيس إقليم دارفور حاليا والمتحالف مع الحكومة ضد مليشيا الدعم السريع، حيث تتشكل قواته من أغلبية من قبيلة الزغاوة مثلها مثل حركة العدل والمساواة التي يقودها وزير المالية الحالي الدكتور جبريل إبراهيم، وتقاتل هي أيضا مع الجيش.

وحين تم تأسيس قوات الدعم السريع على أنقاض مليشيا قبلية تعود أصولها للقبائل العربية من إقليم دارفور، بدا الاصطفاف وكأنه حرب بين مجموعات عربية تقودها مليشيا الدعم السريع، ومجموعات من القبائل ذات الأصول المحلية الأفريقية، وارتكبت المليشيات التي تقودها مليشيا الدعم السريع جرائم في الإقليم كانت سببا في إحالة ملف السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية.

ومع نشوب الحرب الحالية تجددت أفعال المليشيا ضد القبائل الأفريقية، حيث بدأت حربها في دارفور باغتيال والي غرب دارفور خميس أبكر المنحدر من قبيلة المساليت، وارتكاب مجازر على أساس إثني وجرائم ترتقي إلى الإبادة الجماعية، كما وثقتها التقارير الدولية.

هل سيعترف المجتمع الدولي بحكومة المليشيا؟
منذ أن أعلنت المليشيا نيتها تكوين حكومة في الإقليم وبعض أجزاء جنوب كردفان بعد تحالفها مع حركة عبدالعزيز الحلو، توالت البيانات التي تدين تلك الخطوة، وتؤكد على عدم اعترافها بأي حكومة موازية في السودان، وفي مقدمة تلك المواقف بيان مجلس الأمن في أغسطس/آب الماضي، برفض تشكيل المليشيا حكومة موازية، وكان الاتحاد الأفريقي قد سبق ذلك الموقف ببيان مماثل، كما أن الخارجية السعودية والخارجية المصرية أكدتا على دعم الحكومة الشرعية، ورفضهما أي محاولات لتهديد وحدة السودان.

هذه المواقف الداعمة للحكومة السودانية، أكدت أن حكومة المليشيا لن تنال اعترافا شرعيا من المؤسسات الدولية والإقليمية، ولكنها ستراهن على فرض الأمر الواقع عبر القوة الجبرية، وذلك بإقرار أوضاع جديدة في المناطق التي تسيطر عليها، ومحاولة خلق مؤسسات موازية لتقدم نفسها وكأنها سلطة شرعية.

كما أنها ستحاول استنساخ النموذج الليبي، وتستفيد من تلك التجربة، خاصة أنها على علاقة جيدة مع خليفة حفتر، وكانت المليشيا قد استماتت في السيطرة على نقاط مهمة على الأرض في كرب التوم ومنطقة المثلث الحدودي ذات الأهمية الاستثنائية، وذلك لفتح خط الإمداد مع الخارج عبر ليبيا.

وإذا نجحت المليشيا في تثبيت وجودها الميداني لفترة زمنية طويلة، فإنها ستحاول تعزيز سيطرتها عبر إجراءات قسرية على المواطنين، مما يمهد لانقسام جديد في السودان، خاصة أن هناك تعبئة سلبية تتبناها أبواق إعلامية تابعة لهذه المليشيا تعمل على إنتاج خطاب عنصري يصب مزيدا من زيت الفتنة الاجتماعية على نار الحرب المشتعلة، ويعمل على تعميق الانقسام الاجتماعي.

السيناريوهات المتوقعة
إزاء هذا الوضع المتأزم تثور أسئلة حيرى حول مستقبل السودان، وهناك عدد من السيناريوهات يمكن تصورها بناء على الأوضاع القائمة على الأرض، وهي على النحو التالي:

أولا: أن تتكلل مساعي الجيش والقوات المشتركة والمستنفرين الذين يقاتلون مع الجيش في استعادة الأراضي التي سيطرت عليها مليشيا الدعم السريع في ولايات دارفور، فتقطع دابر الفتنة من جذوره.
ولكن هذا السيناريو بحاجة إلى عوامل شتى، وفي مقدمتها استعادة روح المعارك التي جرت في الجزيرة والخرطوم، والتي تم على إثرها طرد وهزيمة المليشيا، وكان حاكم إقليم دارفور مني مناوي قد انتقد تلميحا تراجع الروح المعنوية والدفع الكبير لملاحم حرب الكرامة.

ولا تنقص الجيش تلك الروح ولا المعدات اللازمة، على أنه يجب الأخذ في البال أن حلفاء المليشيا وداعميها الإقليميين لن يدخروا جهدا في هزيمة أي مسعى وطني لدحرها.

ثانيا: أن تتجه الأوضاع إلى تسوية سياسية بين الأطراف تنطلق من التحركات الأميركية الأخيرة التي كان آخرها لقاء رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان مع مستشار ترامب في جنيف.
ومع أن البرهان وقيادات عسكرية عليا ظلوا يؤكدون أنه لا مفاوضات مع المليشيا إلا على استسلامها، فإن تقاطعات المصالح الإقليمية والدولية قد تنتج نوعا من مساومة تحاول مخاطبة انشغال كل الأطراف الداخلية والخارجية.

ثالثا: أن يستمر الوضع على ما هو عليه وفقا لتوازنات القوة والضعف، بما يشبه النموذج الليبي فتكون هناك حكومتان، واحدة شرعية وأخرى حكومة أمر واقع، وخطورة هذا السيناريو أنه سيعمل على إبقاء حالة اللاسلم واللاحرب في البلاد مما يؤثر على تماسك المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وينتهي إلى الإنهاك الشامل للقوى الوطنية.
رابعا: أن تنجح المليشيا في تثبيت سلطتها، وتكون بيدقا للقوى التي تسعى لفصل إقليم دارفور، وهي قوى معلومة ومخططاتها منشورة ومبذولة للعامة، والدعم السريع نفسها على تواصل وتنسيق مع الإسرائيليين الذين أعلنوا مرارا أن إستراتيجيتهم في السودان تقوم على قاعدة: (سودان مجزأ وهش خير من سودان قوي وموحد).

على كل فإن السودان اليوم على مفترق طرق حقيقي، والمحافظة على وحدته تتطلب المزيد من الحكمة الوطنية، وتوظيف عناصر القوة المادية والمعنوية، ومن بعد ذلك التحرك مع الأصدقاء الحقيقيين للسودان؛ من أجل الانتصاف لشعبه، وتحقيق التطلعات المشروعة لأهله.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى