مقالات الرأى

ضياء الدين بلال يكتب … اللعب بالأرقام…!

-١-

تأتي أحيانًا مناسبات وأحداث تبدو للبعض مفاجئة وغير مسبوقة، بينما هي في حقيقتها مكررة ومعادة. وعندما نعزم على الكتابة عنها، نجد في أرشيفنا ما يغني عن إضافة المزيد.

يؤسفني القول إننا من أكثر الشعوب عجزًا عن تصحيح أخطائنا أو تصويب مساراتنا أو الاستفادة من تجاربنا السابقة.

وبعد الترحم والمواساة في ضحايا انزلاق التربة في إحدى قرى جبل مرة بدارفور، سواء كان عددهم أكثر من ألف كما جاء في بعض البيانات، أو عشرات، أو حتى اثنين فقط كما نقلت بعض المصادر المحلية، تتكرر لدي الحاجة الماسة للتنبيه والتحذير من التسرع في إطلاق الأرقام والنسب دون تدقيق.

للأسف، معظم الأرقام التي تمر عبر أوراق الجهات الرسمية أو الحزبية وصولًا إلى الوسائط الإعلامية، تكون محاطة بالريبة مبللة بالشكوك مشبعة بالظنون.
فلا توجد جهة تحظى بمصداقية عالية، يمكن الاطمئنان إلى دقة أرقامها ونسبها دون أن يخالج النفس شيء من “لكن” و”حتى” وكافة أدوات التعجب وعلاماته!
-٢-
في حوار صحفي أجريته مع الراحل الدكتور حسن الترابي سألته عن قيادي حكومي بارز آنذاك، فقال: “كان يخدعنا بالتقارير المزيفة والمعلومات غير الصحيحة عن أعداد عضوية الحزب بين الشباب والطلاب، ونسب الاستقطاب”.

في المظاهرات والمسيرات، يبدأ الحديث عن عشرة آلاف مشارك ثم لا يلبث أن يتضخم الرقم ليصل إلى مئات الآلاف .
وعند استقبال الراحل الدكتور جون قرنق قدرت وسائل الإعلام العالمية عدد الحضور بمليون شخص بينما قالت الحكومة إنهم 500 ألف أما قرنق نفسه فقد رفع العدد إلى 6 ملايين!
-٣-

معظم الأرقام التي تُتداول في تصريحات السياسيين تمر عبر الآذان ولا تُعرض على أي فحص أو تمحيص.
بل كثيرًا ما تصدر عن الجهة الواحدة، بألسنة متعددة، أرقام ونسب متضاربة حدّ الدهشة والحيرة.

من يحسب بدقة حجم إنتاج سلعة استراتيجية مثل الذهب في التعدين الأهلي هل هو ١٠١ طن، أم ٢٠٠ طن؟!
الرقمَان وردا في تقارير رسمية، خلال سنوات سابقة!

في أحد التصريحات، قال مسؤول سوداني بعد اجتماع مع نظيره المصري (قبل اندلاع الحرب)، إن عدد الشقق المملوكة لسودانيين في مصر يبلغ 600 ألف شقة، بقيمة 18 مليار دولار! دون أن يذكر مصدر هذه الإحصائية الخطيرة، ولا الجهة التي صدرت عنها، ولا آثارها المتوقعة على السياسات.
-٤-

صديقنا الطاهر ساتي كتب في عموده عن بعض الجهات المحلية، ذات الصلة بمنظمات دولية، ترفع أرقامًا فلكية عن انتشار الأوبئة والأمراض بهدف زيادة ميزانيتها. أورد مثلًا أن مسؤولًا حكوميًا قال ذات مرة إن نسبة الإصابة بداء الفيل في السودان تبلغ 50% من السكان، فقط من أجل استقطاب دعم من منظمة الصحة العالمية!

وفي مناسبة اجتماعية بمنزل السفير علي يوسف، روى رجل أعمال معروف تجربته مع الاستثمار الزراعي بإحدى الولايات. يقول إن الأوراق الرسمية أكدت له أن الأرض الصالحة للزراعة تبلغ 200 ألف فدان، لكنه عندما بدأ العمل فعليًا، بمساعدة خبرات أجنبية، اكتشف أن المساحة لا تتجاوز 20 ألفًا فقط! وفسّر الأمر بأن كل مسؤول يرفع لرئيسه معلومات مضخمة ليظهر كفاءته أو يُثبت أنه “فأل خير” على الحكومة!
-٥-

وقبل سنوات، صرّح وزير تجارة محسوب على أحد الأحزاب المشاركة في السلطة، بأن صادرات البلاد من الصمغ العربي بلغت 3 مليارات دولار في ثلاثة أشهر فقط!

في المقابل، صرح وزير معادن – قبل مغادرته موقعه بأسابيع – أن الحكومة الأسترالية قدمت عرضًا استثماريًا للسودان بقيمة 11 مليار دولار، منها 7 مليارات كوديعة نقدية! أما سلفه في المنصب فجاء بشركة روسية وعدت بمنح السودان 5 مليارات دولار مقابل الذهب.
كل هذه الأرقام ثبت لاحقًا أنها أوهام لا أساس لها.
-٦-
هذه الروايات يشترك أغلبها في أمرين: إما أن الأرقام غير صحيحة، أو أنها غير دقيقة. وتفسيري لذلك أن هناك ثقافة ديوانية موروثة داخل مؤسسات الحكم تقوم على تضليل المسؤولين بمعلومات غير حقيقية، سواء بدافع الفساد والتحايل، أو نتيجة كسل مؤسسي، وروتين عقيم، وغياب منظومة تحقق فعالة.

ولا نعفي الصحافة من المسؤولية، فنحن أيضًا نُعاني من ضعف الحساسية في التعامل مع الأرقام، ونفتقر غالبًا إلى الدقة في نقلها أو التحقق من مصادرها.

السبب الأساسي وراء هذا الخلل البنيوي المزمن في أداء المؤسسات، هو غياب الجهات الفنية ذات الكفاءة العالية، والمخولة قانونًا بالتحقق من دقة المعلومات والأرقام الواردة في التقارير الرسمية، باستخدام وسائل علمية حديثة، لا أدوات تقليدية متسيبة. فالجهاز القومي للإحصاء مثلًا لا يحظى بالدعم اللازم، لا من حيث التمويل، ولا من حيث الكفاءات.

لن تتمكن الحكومات من إدارة الشأن الاقتصادي بكفاءة، أو تجنيب البلاد الأزمات المتلاحقة، ما لم تعتمد على قاعدة معلومات صحيحة، وأرقام حقيقية، لا مزيفة ولا مفبركة، سواء بدافع النصب، أو الكسل، أو الإهمال.

-أخيرًا-
على الحكومة أن تراجع آلياتها الرقابية بجدية، وتحصّن متخذ القرار من تسرب المعلومات غير الدقيقة، لأن من أبجديات الإدارة الحديثة:
“ما لا يمكن قياسه، لا يمكن إدارته”.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى