منى أبوزيد تكتب.. زراعة أخلاق
زراعة أخلاق
“عامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة”.. إيمانويل كانط..!
معظم المواعظ التي يتبرع بها بشر خطاءون من باب النصح والإرشاد – في مواجهة ما يرونه سذاجةً في سلوك بشر خطائين آخرين – تكون مُضللة ولا تصلح لغير الإلقاء بأيديهم إلى التهلكة..!
لكن أكثر المواعظ المُضللة طرافةً وظرفاً وإثارةً للضحك سمعتها من أحد الناشرين في أثناء جلسة عمل بمكتبي في إدارة الإعلام بالجامعة، حينما انعطف بنا الحديث إلى مسألة العمولة الخاصة بالإعلانات التي تقوم الجامعة بنشرها عبر الصحف..!
الزملاء الذين قد يقرأون هذا المقال من رؤساء تحرير وناشرين شرفت بالتعامل معهم باسم الجامعة يعلمون أنني كنت أطلب من إدارة الصحيفة تخفيض قيمة العمولة الخاصة من فاتورة الإعلان، لأنني موظفة وليس من أخلاق المهنة أن يأخذ الموظف عمولة في مقام تنازع مصالح..!
بعد آخر رشفة من فنجان قهوته، وبعد أن أثنى على جودة البن، رمقني ذلك الأستاذ الزميل – يومها – بنظرة فاحصة وكأنه يتأكد من سلامة صحتي النفسية قبل يقول في مزيج من السخرية والإشفاق “الزول في حالتك دي بيكون في نظر الناس ملوث فأحسن ليه يتلوث”..!
ما زلت أبتسم كلما ذكرتُ تلك الموعظة التي قيلت بحسن نية رغم كونها مُضلة – فاستحقت بذلك أن تقف على أعتاب النكتة – وأنا أقول في نفسي “بالله دا كلام”..!
الفيلسوف والفقيه القانوني “مونتسكيو” – صاحب نظرية فصل السلطات – ناقش في كتابه “روح القوانين” جدلية العلاقة بين الأعراف والأخلاق والقوانين وطغيان المناخ والتضاريس وأحكام الجغرافيا الاجتماعية على طبائع الشعوب ودرجات وعيها. فهل يمكن تبرير مثل تلك المواعظ بأنها “سخانة ساكت”..؟
اليوم وبعد مرور عام على اندلاع هذه الحرب أعتقد أن علينا أن نسأل أنفسنا أين كانت مواقفنا وأين كان موقع هذا المجتمع على سلم القيم والأخلاقيات؟. وكيف لنا أن ننجح في رسم واقع جديد يكون فيه “سودان ما بعد الحرب” محمياً من التطبيع مع صور وممارسات الفساد التي أوردتنا موارد الحروب..!
أقول بهذا لأنني أؤمن جداً بأنه يمكن لزعاماتنا الفكرية والثقافية والاجتماعية أن تضع خططاً استراتيجية لتجويد مُمسكاتنا القومية وأن تقود حملات توعوية لتجويد أخلاقياتنا الوطنية..!
عندما كانت اليابان تعيش محنة زلزال وتسونامي “توهوكو” انصرف العالم عن مظاهر الكارثة وتفرغ للانبهار بسلوك شعبها الراقي ونزاهته الأخلاقية في مواجهة فوضى الحقوق التي تخلفها الكوارث. وهذا دليل على إمكانية نجاح مشاريع زراعة الأخلاق..!
لا بد أن تنجح هذه الحرب في تغيير ما لم تشرع في تغييره الثورة التي انشغلت بتغيير شكل الحكم وتبديل أنماط الحاكمين. التغيير الحقيقي في وقت قياسي تحدثه الحروب الأهلية لأنها تمسك بأكتاف المجتمعات وتهُزها هزاً، فتتساقط مظاهر الظلم والابتزاز والرشوة والفساد، وتمنحها عودة الأمن السلام – على أسس جديدة – بعداً أخلاقياً جديداً وزاخراً..!
سأظل أؤمن بجودة قُمَاشة الإنسان في هذا السودان، حتى وإن أفسدت بعض جوانبها حياكة الفقر الاقتصادي أو شوهت بعض معالمها خياطة العجز السياسي، أو بدلت بعض ملامحها ظروف النزوح ومعاناة اللجوء في هذا الزمن الرديء. سوف أظل أؤمن دوماً بإمكانية أعادة رَتْقِها في ثوب أخلاقي قَشيب!.