مقالات الرأى

رحمة عبدالمنعم يكتب .. «عودة بقال»..خيانة وعبث واستهتار

في الأزمان التي تشتدّ فيها المحن وتختبر الأمم صلابة معادنها، لا يحقّ لها أن تعبث بميزانها الأخلاقي، ولا أن تتساهل مع من باع ضميره في سوق الفتنة، فالأوطان حين تنزف، لا تحتاج إلى مزيدٍ من الطعنات، ولا إلى أصواتٍ كانت بالأمس القريب تبرّر الذبح وتُشرعن الخيانة.
من هذا الباب، تبدو الأحاديث التي راجت عن عودة المتمرّد إبراهيم بقال إلى بورتسودان بعد حصوله على ضمانات بالعفو، حديثاً يبعث على الأسى أكثر مما يثير الدهشة، فالرجل لم يكن مجرّد مقاتلٍ عابر في صفوف مليشيا الدعم السريع، بل كان أحد أبواقها الإعلامية الأكثر فجاجة، يتطاول على الجيش، ويهين قبائل الشمال في لحظةٍ كان فيها الوطن كله يترنّح تحت نيران العدوان.،،،،،،
لقد قال ما قاله بلسانه، وكتب ما كتبه قلمه، وليس في ذاكرة الناس متّسع للنسيان،استخدم خطاباً لا يليق حتى بأعداءٍ يحترمون أنفسهم في الحرب، ناهيك عن ابن وطنٍ اختار أن يقف ضدّه،وحين يأتي اليوم ليعرض “توبته” ويدّعي امتلاكه “معلومات خطيرة”، فإنّ السؤال الأوّل الذي يُطرح هو: ما قيمة تلك المعلومات أمام تاريخٍ من الإساءة والخيانة؟
ما الذي يمكن أن يقدّمه بقال للدولة أو للجيش؟ آخر عهده بالميادين كان حين دُحرَت المليشيا في صالحة بأم درمان، يوم فرّ كثيرون وتركوا البنادق والوعود خلفهم، ومنذ ذلك الحين، لم يُعرف للرجل موقفٌ يُحمد، ولا كلمةٌ تدلّ على مراجعةٍ حقيقية أو ندمٍ صادق.
المؤسف في الأمر أن الحديث عن عودته لم يأتِ من فراغ، فبحسب ما تسرّب من معلومات، فإنّ رئيس جسم داعم للجيش، كان قد تواصل معه عبر أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي، قال بقال آنذاك إنّه “يمتلك معلومات مهمة” و”جاهز للحضور إلى بورتسودان”، والوسيط، بدافعٍ وطني أو بحسن نية، نقل الأمر وتحصل له على ضمانات بالعفو.
لكنّ حسن النيّة لا يعفي من سوء التقدير، فالسياسة، في لحظات الحرب، ليست ملعباً للتجارب، ولا مكاناً للمراهنات على شخصياتٍ احترفت التقلّب،من قاتل في صفوف المليشيا، ومن حرّض على الجيش وشتم الشعب، لا يعود إلى الوطن كبطل تائب، بل كمجرّد شاهدٍ على زمنٍ من الانحدار.
إنّ التسامح فضيلة حين يكون مقروناً بالعدالة، لكنه يتحوّل إلى ضعفٍ حين يُستخدم ستاراً لتلميع الخونة، والجيش السوداني، الذي واجه حرباً غير مسبوقة في وحشيتها، لا يستحقّ أن يُعانق من طعنه في ظهره، ولا أن يُقال له إنّ “البوابات مفتوحة للجميع”، دون تمييزٍ بين من صان الشرف ومن باعه.
لقد أثبتت التجارب في بلدانٍ كثيرة أنّ العفو عن المرتزقة لا يورث إلا الندم، وأنّ من اعتاد الخيانة لا يعود مواطناً صالحاً بين ليلةٍ وضحاها،فالوطن ليس فندقاً يدخل إليه الناس متى شاؤوا ويغادرونه حين تشتدّ العاصفة.
الذين صمدوا في الخنادق، والذين رفعوا راية الجيش رغم الجوع والحصار، أولى بأن يُكرّموا من أولئك الذين صفقوا للمليشيا وأداروا حربها الإعلامية..ليس في الأمر قسوة، بل إنصافٌ لذاكرة الوطن. لأنّنا إذا فتحنا الباب لكل من لوّث اسمه بالدم، فلن يبقى للوفاء معنى، ولن يكون بين الشهداء والمرتزقة فرق.
إنّ عودة إبراهيم بقال، إن حدثت، ليست خبراً عابراً في صفحات السياسة، بل امتحانٌ جديد لضمير الدولة: هل نحن أمام عهدٍ من المحاسبة والوفاء، أم أمام زمنٍ يُكافأ فيه من أساء، ويُنسى فيه من ضحّى؟
فلتتذكّر الدولة، وهي تتعامل مع أمثال بقال، أن الأوطان لا تُبنى بالعفو عن الذين باعوا ضمائرهم في مزاد الدم، إنّ العفو عن الخيانة ليس سماحة، بل استخفافٌ بالتضحية، وتهاونٌ في حفظ الكرامة الوطنية،إن كان الوطن قد عفا، فالتاريخ لا يعفو، والتاريخ، كما نعلم، لا يكتب بالأماني، بل بالأفعال.
إنه لأمرٌ مخزٍ أن نرى من تلطّخت يداه بالدماءوبلغة التحريض يعود اليوم ليطلب الأمان، فيما لا يزال أبناء الشهداء يبحثون عن قبور آبائهم بين الركام،فمن لم يعرف معنى الوطن حين كان يشتعل، لن يعرف قيمته حين يهدأ الرماد.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى