
أكمل رئيس الوزراء الدكتور كامل ادريس اليوم ثلاث شهور وثلاثة أيام، منذ اعلان اسمه لهذه المرحلة الحرجة من تأريخ السودان، بعد اليوم يمكن توجيه سهام النقد لأدائه وأداء مجلسه الموقر، لإكتمال المئة الأولى من عمر أيام التعيين، نقول ذلك ولم تظهر في الأفق أية حلول، أو بدايات جيدة تؤشر لنجاحات مرتقبة.
التحدي الأول الذي واجه حكومة السيد البروف كامل هو وضعية ولاية الخرطوم، والاتجاه لاسراع أعادة الاعمار فيها وإسترجاع الحياة لطبيعتها، توقع كثيرون أن يبدأ كامل تدشين عمل مجلس الوزراء من ولاية الخرطوم مباشرة، وأن لا يجلس ولا يوم واحد في بورتسودان، وإذا تأخر جدا، يفعل ذلك بعد أدائه القسم، لكن خابت الأمنيات والتوقعات، ثم جاء تكوين لجنة اعمار وتهيئة الخرطوم بإشراف ورئاسة عضو مجلس السيادة و مساعد القائد العام الفريق إبراهيم جابر ، ما أوحى لكثيرين سيطرة السيادي على مجلس الوزراء، نقول ذلك ولا زال الوقت باكرا ليصحح د. كامل خطواته، وينجح في فعل ينسب لشخصه ويسجل له لا عليه، الا أن هذا لم يحدث حتى يوم الناس هذا.
التحدي الثاني، أمام مجلس الوزراء هو التصاعد المفاجئ في أسعار العملات الأجنبية وسرعة تهاوي الجنيه السوداني، حدث ذلك بمجرد استلام د. كامل لمهامه، وكانت قيمة الدولار الى الجنيه طيلة فترة الحرب لم تتجاوز الـ ٢٧٠٠ جنيه، وكلنا يعلم أن قيمة الدولار صبيحة يوم الغدر في ١٥ أبريل كانت ٥٢٠ جنيها، بمعنى أنه تضاعف خمسة مرات في أشد شهور الحرب ضراوة، وابان سيطرة الجنجويد على الخرطوم، والولايات المنتجة في الوسط والغرب، لم يتجاوز الدولار الـ ٢٥٠٠ برغم الخسائر الفادحة وفواتير الحرب الباهظة، لكن بمجرد تعيين د. ادريس وتفاؤل المواطن بحكومة الأمل التي ملأت أشرعة البلاد بالأمل وحسن الكلام والتصريحات، تصاعدت أسعار الدولار وتجاوز حاجز الـ ٣٠٠٠، بل أسوأ من ذلك قفز إلى ٣٤٠٠، في أعقاب تشكيل اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية برئاسته ، وكأنما أراد الجهاز التنفيذي أن يعيد للأذهان قصة اللجنة الاقتصادية سيئة الذكر، في زمن حمدوك، والتي رأسها وقتئذ قائد التمرد، إن العبرة ليست في تشكيل اللجان، ولا تعوزنا أو تنقصنا القرارات الصادرة، إنما العبرة بالأفعال لا الأقوال، ومعرفة الأسباب الحقيقية لارتفاع أسعار الدولار وتهاوي الجنيه، ثم معالجتها من جذورها.
أيضا من التحديات ظهور د. كامل ادريس بمظهر ضعيف وهو يفشل في إكمال مجلس الوزراء لأكثر من شهرين، فيسمي د. المنصوري، ثم يتعجل في إقالته بتصريح القاهرة، ولم تمض أيام معدودة في أصابع اليد، و يحط د. المنصوري رحاله في بورتسودان، ويتهيأ لأداء القسم، وكل ذلك محسوب على رئيس الوزراء، وقصة المنصوري ليست ببعيدة عن اختيار الدكتور معز بخيت للصحة، وهذا ينم ينم عن تخبط وعدم دراية، والحمد لله أن عولج الأمر باختيار من بذل الجهد والوقت والنفس في أيام عسرة الحرب ولا زال، أيضا ليس ببعيد عن قصتي المنصوري وبخيت، اختيار رئيس الوزراء لمستشارين له، ثار حول اختيارهم غبار كثيف من النقد ولا زال، ما رجح فرضية أن الدكتور لم يختارهم وانما فرضوا عليه، وفي هذا إشارة إلى تعدد في مراكز القوى في بورتسودان، وأن هذه المراكز ذات أثر ونفوذ في المشهد العام.
التحدي الرابع موضوع الفساد، وهذا هو أس البلاء الذي أقعد بالسودان طوال عقود، وبحسابات بسيطة إذا جاءت حكومة في السودان، وتمكنت من فرض هيبتها واجتثت شأفة الفساد المعشعش في كافة القطاعات، لكان السودان اليوم يتقدم دول عديدة.
معلوم أن أهل المصالح موجودون في أي حكومة وأي بلد، لكنهم في السودان وعلى مدار تأريخه كان لهم شأن وسطوة ونفوذ، لم تسلم من أصحاب المصالح والفاسدين حكومة من الحكومات، كل العهود العسكرية، وكل الديمقراطيات ، جميعها أخذت من ذلك نصيب، وكان النصيب الأكبر لصالح النظم العسكرية، وظهر ذلك جليا في نظام البشير، وإن كان الفساد بنسب أقل في عهدي عبود والنميري ، لكن كان ظهور أصحاب المصالح في عهد البشير هو الأكبر، ولعل أن لذلك أسبابه، فالنظام دون غيره بلغ من العمر عتيا، أيضا توسعت صادرات السودان في ذلك العهد، وظهر البترول والذهب فيه، وتضاعفت فرص الاستثمار والتجارة، لكل ذلك كان عهدا خصبا لنمو الأموال وانفتاح شهية أهل المصالح، ورواد الفساد.
سقت هذا الحديث لتنوير السيد رئيس الوزراء بأن اجتثاث الفساد يمثل الرافعة الأولى والوحيدة لخروج السودان من دائرة الفقر والعوز إلى الرخاء والإنتاج، وحقيقة مهمة لابد من وضعها في الحسبان وهي أن كافة القطاعات الانتاجية، والصادرات مهما بلغ إنتاجها وأرقامها، فهي في حال وجود أصحاب المصالح لن تحقق ما هو مرجو منها، وفي ظل نمو كارتيلات الفساد نتوقع استمرار التراجع والانهيار في كل القطاعات، حتى إذا أصبحنا الأوائل في انتاج الذهب عالميا، وتمكنا من زيادة انتاج البترول، وعالجنا جميع مشكلاتنا في الإنتاج الزراعي والحيواني والسمكي، اذا حدث كل ذلك ولا زال أصحاب المصلحة يعقدون اتفاقية صلح مع أصحاب النفوذ، فلن يكتب لنا النجاح ولن نر طريق الفلاح، وقديما قيل (متى يبلغ البنيان يوما تمامه/اذا كنت تبنيه وغيرك يهدم).
يا سيدي رئيس الوزراء، لا نريد مفوضية للفساد، ولا نريد مؤسسة تقوم بهذا الاسم أو جسم منفصل يحمل هذه اللافتة، نريد فقط تفعيل القوانين واحترامها وانفاذها، على الكبير قبل الصغير، وعلى الشريف قبل الوضيع، نريد أن نجتث الواسطة والمحسوبية، وكما قال أهل القوانين وفقهاؤها، إن النصوص موجودة، والقوانين قائمة، لكنها أهملت وتركت. إن تحقيق الثورة على الفساد والفاسدين لن تتم بوجود المفوضية وحدها، ولا بوجود لافتة مزينة تحمل معاني الشرف والنزاهة والأمانة، إنما يتم ذلك بإرادة وعزيمة تعلي من قيمة دولة القانون، ودولة المؤسسات التي لا تمنح مقاعد لاصحاب المصلحة والمفسدين بين مجالسها.