
في مسيرة الشعوب، هناك لحظات تختلط فيها صورة المؤسسة بصورة الوطن، وحينها يصعب على المراقب أن يفصل بين جناح الطائرة ويد الخير، شركة تاركو للطيران، التي اعتدنا أن نراها في المطارات والرحلات، تقدّم نفسها اليوم بوجه آخر: وجه المؤسسة التي تُدرك أن رسالتها لا تنتهي عند حدود نقل الركاب، بل تبدأ من هناك لتدخل في حياة الناس حيث يحتاجون إلى سند.
المدير العام للشركة، الأستاذ سعد بابكر، بدا وكأنه يكتب سيرة جديدة للقطاع الخاص في السودان، ليس مجرد رجل أعمال يدير طائرات وأسطولاً جوياً، بل هو أيضاً رجل يتذكّر أن الوطن محتاج إلى من يزرع في صحرائه بئراً، ويضيء في أحيائه شارعاً، ويضع في مستشفاه جهازاً حديثاً يخفّف عن المريض عناء الانتظار، ولعل مبادرة “سعد الخير” تمثل أوضح دليل على هذا الحس، إذ بدأت من أساسيات الحياة: الماء عشرون بئراً ارتوازياً، بعضها في السودان، وبعضها الآخر في معسكرات اللاجئين بأوغندا، تحمل أسماء الوالدين والأحبة، كأنها رسالة عائلية ممتدة إلى الناس جميعاً.
لكن “سعد الخير” لم تكتفِ بالماء، فقد جاءت التشجير والإنارة، بأكثر من خمسين ألف شتلة مثمرة غُرست في شوارع شمبات وحدائقها، إلى جانب كشافات الطاقة الشمسية التي أعادت الضوء إلى المساجد والطرقات، جاءت بعدها مبادرات الصحة، من صيانة مراكز العلاج إلى حملات رشّ للوقاية من الملاريا وحمى الضنك، وصولاً إلى قوافل الأدوية التي سلكت طرقات بعيدة لتصل إلى القرى، وفي مجال التعليم، لم تغب المدارس عن بال الشركة، فكان دعم بيئتها وتوفير ترحيل الطلاب، في وقت أصبحت فيه هذه التفاصيل الصغيرة حياة كاملة لأسر كثيرة.
إنه مشهد يشبه لوحة فسيفسائية متصلة: طائرة تعود بالحجاج من مكة المكرمة، ثم أخرى تحمل رئيس الوزراء من جدة إلى بورتسودان، وثالثة تنقل شحنات من الأدوية التي جمعها المغتربون، ورابعة تتكفل بعلاج فنان الشعب عبد الرحيم أرقى عبر تذاكر سفر تحمل بداخلها رسالة محبة ووفاء للفن السوداني الأصيل..هكذا تتحول شركة الطيران إلى مؤسسة وطنية بمعناها الأشمل، مؤسسة قريبة من المجتمع، تسمع أنينه وتستجيب لندائه، وتعيد تعريف معنى “الناقل الوطني”.
ولا يمكن أن نذكر هذا المسار من دون التوقف عند المدير التنفيذي لتاركو موسى محمد علي، الرجل الذي يقدّم الأفكار ويدعم المبادرات بوعي إداري رشيق،هو “الشاطر”، كما يصفه مقربوه، الذي يحوّل الرؤية إلى خطة، والخطة إلى فعل، والفعل إلى أثر يلمسه المواطن العادي، وبوجوده إلى جانب سعد بابكر، اكتسبت الشركة توازناً لافتاً بين الحلم والتنفيذ، بين العاطفة والعقل.
الناس في القرى مثل اللعوتة، حين استقبلوا قافلة الشركة الطبية بالزغاريد، لم يكونوا يحيّون طائرة أقلعت أو هبطت، بل كانوا يحيّون معنى آخر: معنى أن تجد في زمن الحرب مؤسسة تنشغل بك أيضاً، بأطفالك ومرضاك ومدارس أبنائك.
إنه درس بليغ في أن المسؤولية الوطنية ليست شعاراً يُعلّق على الجدران، بل هي فعل يتكرر كل يوم: في مستشفى، في مدرسة، في بئر ماء، وفي تذكرة سفر تنقل فناناً إلى العلاج..تاركو، بهذا الوجه، تذكّرنا بأن الشركات ليست فقط أرقاماً في ميزانيات أو مقاعد في مجالس الإدارة، إنها يمكن أن تكون جزءاً من الذاكرة الجماعية للأمة، وحين تكتب الأجيال القادمة تاريخ هذه الأيام الصعبة، سوف تجد اسم هذه الشركة ليس في صفحات الاقتصاد وحدها، بل في الصفحات التي تسجل مبادرات العطاء، حيث يصبح النقل الجوي امتداداً للرحمة على الأرض