مقالات الرأى

محمد عبدالقادر يكتب… الخرطوم غيرُ صالحةٍ للعودة.. وهذا هو المطلوب..!!!

تابعنا على واتساب

زيارتي لمدينةِ الخرطومِ الجريحةِ خلال الأيامِ الماضيةِ أوسعتني حُزناً على ما آلت إليه، وهي مُحترقةٌ وحزينةٌ بعد أن دمّرها الجنجويدُ تدميراً، وأفرغوا في شوارعِها ومؤسساتِها غبناً ووحشيةً، وجعلوها مدينةً من رمادٍ، تحتضر تحت الركامِ والأنقاضِ.

الخرطومُ موحشةٌ ومريضةٌ، لم يسلم منها شِبرٌ، تحوّلت إلى أطلالٍ لذكرياتِ تاريخٍ عظيمٍ كانت فيه “جنةَ رضوان”، وتحوّلت الآن إلى “مدينةِ أشباحٍ” تفيض بالجثثِ ومخلّفاتِ الحربِ، وتسكنُها الكلابُ الضالّةُ، وتعربد في أركانِها الأربعة الكآبةُ…

في ظلّ ما رأيتُ من انهيارٍ وتلوّثٍ بيئيٍّ وتراكمٍ للنفاياتِ والأنقاضِ وغيابٍ لخدماتِ الصحةِ والتعليمِ والمياهِ والكهرباءِ، أرى أن يتّقي أصحابُ برامجِ العودةِ الطوعيةِ اللهَ وهم يُفَوِّجون الناسَ إلى مدينةٍ لا تتوفّرُ فيها أسبابُ الحياةِ، ويُلقونهم في التهلكةِ.

الأجدى الابتعادُ عن دغدغةِ مشاعرِ المواطنينَ وتوظيفِها في حملاتٍ تُنادي الناسَ بأن ارجعوا إلى بيوتِكم، لأن “جنةَ رضوان” أصبحت الآن (خرابةَ شيطانٍ) تُواجهُ التلوّثَ والانفلاتَ الأمنيَّ وجيوشَ البعوضِ والذبابِ وهوامَّ الأرضِ، وتتفشّى فيها الأمراضُ، وتَنعدمُ فيها الخدماتُ: لا ماءَ ولا كهرباءَ، ولا تعليمَ أو صحةً، حتى الأوكسجينُ لم يعُدْ كما عهدناه، وفضاءُ المدينةِ يزكمُ الأنوفَ بروائحِ الجثثِ والبارودِ والأوساخِ المتراكمةِ… ومخلّفاتِ الحربِ اللعينةِ التي قضتْ على كلِّ شيءٍ في الخرطومِ، المدينةِ التي اغتصبها الجنجويدُ ثم قتلوها وحرقوها بطريقةٍ لم نعهدْها في الحروبِ القديمةِ، وربما لن تحدُثَ في المستقبلِ…

لا يُنكِر أحدٌ أن حكومةَ ولايةِ الخرطومِ تبذلُ جهوداً كبيرةً، رغم شُحِّ الإمكانياتِ، في النظافةِ وإزالةِ الأنقاضِ ومخلّفاتِ الحربِ، ولكن هل يكفي ذلك بدون كهرباءِ وصحةٍ وتعليمٍ ومياهٍ – جعل اللهُ منها كلَّ شيءٍ حيٍّ – لأن يعودَ المواطنونَ إلى المجهولِ…

بصماتُ الولايةِ ظهرتْ في أم درمان وكُرري، وبنسبةٍ ملحوظةٍ في أطرافِ بحري، ولكن الخرطومَ ما زالتْ تُعاني…ما يحدثُ الآن من برامجَ تدعو الناسَ للعودةِ إلى الخرطومِ مؤامرةٌ تنطوي على تضليلٍ بائنٍ، هدفُها استدراجُ المواطنِ ليُواجهَ العنتَ والمشقةَ، ويموتَ بالجوعِ والمرضِ والعطشِ.. فأسبابُ الموتِ متوفّرةٌ هناك أكثرَ من الحياةِ.

في أم درمان وأطرافِ بحري يمكن أن يعودَ الناسُ، وقد فعلوا، وباتتْ عامرةً ومكتظّةً في أنحاءٍ عديدةٍ، ولكن أعتقدُ أن الوقتَ ما زال مبكّراً لحثِّ الناسِ على العودةِ إلى محليّاتِ الخرطومِ التي دفعتْ أعلى فاتورةٍ في حربِ الجنجويدِ.

الخرطومُ، سادتي، لا تصلحُ الآن لعيشِ (البني آدمين)، ولا حتى للإبلِ والكلابِ الضالّةِ التي ما زالتْ تجدُ مُبتغاها من الجثثِ التي خلّفتْها الحربُ، الخرطومُ مدينةٌ جاثيةٌ على ركامِ المأساةِ، تَكيلُ الرمادَ على رأسِها في كلِّ يومٍ، وقد تحوّلت إلى “كوشةٍ كبيرةٍ” تحتاجُ إلى تفكيرٍ خارجَ الصندوقِ لجعلِ الحياةِ فيها ممكنةً…

أشفِقُ جداً على والي الخرطومِ وهو يقودُ منفرداً جهودَ الإعمارِ وتوفيرَ الخدماتِ ومواجهةَ التفلتاتِ الأمنيةِ، الأمرُ الآن أكبرُ من إمكانياتِ الولايةِ، مما يَحتِّمُ على ولاةِ أمرِنا تكليفَ لجنةٍ قوميةٍ لمواجهةِ الدمارِ والخرابِ الهائلِ الذي لحقَ بكلِّ شِبرٍ فيها، وهي تأوي أكثرَ من ثُلثِ سكانِ السودانِ، و90% من المصانعِ، وتضمُّ أعداداً كبيرةً من المؤسساتِ والمواقعِ الجيواستراتيجيةِ…

لا أدري لماذا يَغيبُ حتى الآن التفكيرُ الذي يُخرجُ ملفَّ العاصمةِ إلى فضاءٍ قوميٍّ يَستصحبُ كلَّ ما حدثَ، ويُخطِّطُ للقادمِ بصورةٍ علميّةٍ تُعيدُ الخرطومَ، عاصمةً جميلةً كما عهدناها…ولا أدري سرَّ النهجِ الذي تعتمده أجهزةُ الدولةِ وهي تعودُ للخرطومِ بموظفينَ وعُمّالٍ، من غيرِ اللائقِ الزجُّ بهم وتحريضُهم على مواجهةِ ظروفٍ لا ولن يتحمّلها الناسُ…

الخرطومُ تحتاجُ إلى إعادةِ تخطيطٍ (من أولِ وجديدٍ)، تُعالِجُ التشوّهاتِ والاختلالاتِ والأخطاءَ المصاحبةَ لبنيتِها وهياكلِها الأساسيةِ، فليس من اللائقِ أن تظلَّ الوزاراتُ في مكانِها على شريطِ النيلِ، ولا أظنُّ أنه من المنطقِ استمرارُ الوحداتِ العسكريةِ وسطَ منازلِ المواطنينَ، وأن تظلَّ بعضُ الأحياءِ في أماكنِها القديمةِ، ولماذا يستمرُّ المطارُ مخنوقاً في قلبِ المدينةِ؟ الشواهدُ كثيرةٌ على خَطَلِ فكرةِ بقاءِ الحالِ على ما هو عليه، خاصةً وأن هنالك فرصةً الآن لتصفيرِ العدّادِ والبدءِ على أُسسٍ سليمةٍ…

الإعمارُ لا يعني بأيِّ حالٍ من الأحوالِ إعادةَ اكتشافِ العجلةِ وتثبيتَ كلِّ شيءٍ في مكانِه، ولا ينبغي أن يكونَ “سَمكرةً وترميماً” وجهداً كسولاً لا يُخاطبُ أُسَّ القضايا والمشكلاتِ التي تُواجهها مدينةُ الخرطومِ تحديداً…

لو استقبلتِ الدولةُ من أمرِها ما استدبرتْ، لأوقفتْ برامجَ تفويجِ الناسِ إلى الخرطومِ، وأغلقتها، وأوكلتْ أمرَها إلى لجنةٍ قوميةٍ من الخبراءِ والمختصّين، ولتبنّتْ من البرامجِ ما يُهيّئُ البيئةَ إلى إصلاحاتٍ حقيقيةٍ تُخاطبُ الأخطاءَ التاريخيةَ التي وصلتْ بالخرطومِ إلى هذا المستوى من الدمارِ…

أغلقوا الخرطومَ (وانسوها سنواتٍ) ثلاثَةَ أعوامٍ على الأقلِّ، إذ لم تَعدْ صالحةً للسكنِ، واعتمدوا خُططاً جديدةً تَستصحبُ الأخطاءَ القديمةَ: نظِّفوها، عقِّموها، عمِّروها، وجهِّزوا خدماتِها، حتى يعودَ المواطنُ مُطمئناً… للأسفِ، هذه هي الحقيقةُ، وليس من رأى كمن سَمِع…دعوةُ العودةِ الطوعيةِ لمدينةِ الخرطومِ جريمةٌ في حقِّ المواطنِ، رسالةٌ نضعُها في بريدِ رئيسي مجلسي السيادةِ والوزراءِ.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى