
حين يتأمل المرء المشهد السوداني اليوم، يظن لوهلة أن الحرب بما حملته من دماء وخراب وتشريد، كان من شأنها أن توقظ الضمائر، أو أن تردع من تسللوا إلى مقاعد القرار بلا كفاءة ولا وزن، لكن ما نراه، للأسف، أن البلد خرج من أتون المعارك إلى جحيمٍ آخر: جحيم التفاهة.
المشهد اليوم تُصدره الطفابيع والوجوه الخفيفة التي قفزت على الواجهة عبر نوافذ الإعلام والسوشيال ميديا، فإذا بالدولة ممثلة في أرفع مؤسساتها، تستضيف ناشطة اجتماعية في أبهى فنادق بورتسودان، وتبارك لها مبادرة وُصفت بأنها “اجتماعية”، بينما الناس لا يجدون الماء والدواء والخبز، والأدهى أن ذات “الناشطة” سُرب لها من قبل مقطع فاضح في إحدى الدول، تلفظت فيه بعبارات خادشة وقالت إن “البلد المتواجدة فيها حضرانة عكس السودان”، ومع ذلك، تجدها اليوم تتصدر المشهد ببركة الدولة، أي سخرية هذه؟
إنها أزمة بلد لم يتعلم من الحرب شيئاً، بلد ازدحم بالساسة “النص كم” والناشطين “التافهين”، وفي فضاء السوشيال ميديا تتسيد بعض “المطلقات” اللواتي يعشن أزماتهن النفسية عبر الادعاء العام وصناعة الضجيج، أما حال القادة، فقد أصبحوا قابلين للابتزاز، يساومون على كل شيء، ويغضون الطرف عن كل شيء، مقابل أن يبقوا في دائرة الضوء ولو يوماً آخر.
الصحافة، تلك المهنة التي كانت يوماً ملاذاً للشرفاء ومرآة للرأي العام، تحولت هي الأخرى إلى سوقٍ للفارغين،جموع من الداخلين عليها بلا معرفة ولا خبرة، يتقنون فقط “النسخ واللصق واللفح”، يبيعون الصفحات لمن يدفع، وينحنون أمام كل سلطة،حتى غدت الكلمة سلعة رخيصة، والإعلام أداة في يد “السواقط” ينفذن بها أجندات “الناس الفوق”.
وهذه البلاد لم تسأل نفسها بعد: لماذا اشتعلت الحرب أصلاً؟ ولماذا لا تزال نيرانها مضرمة في دارفور وأجزاء من كردفان، تحرق المدن وتشرّد الأهالي؟ الإجابة المؤلمة أن الحرب لم تكن سوى انعكاس لأمراضنا الداخلية: الأنانية، الفساد، الانتهازية، الضغائن التي ملأت النفوس، وانعدام الضمير في السياسة والرياضة والاقتصاد والفن.
نعيش اليوم في نسخة مصغرة مما وصفه الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه الشهير زمن التفاهة، حيث تصعد الوجوه الأكثر فراغاً، ويُقصى أصحاب الكفاءة، وتُدار الشؤون العامة بمنطق الشللية والابتذال، بلدٌ ضاع فيه ميزان القيم، حتى صار التفوق في التطبيل والشعوذة الإعلامية أهم من النزاهة أو الرؤية أو الفكرة.
“حكاية البلد الحضرانة” ليست إلا صورة بائسة لأمة جُرحت، كان الأمل أن تخرج من الحرب أكثر حكمة وأكثر وعياً، فإذا بها تفتح أبوابها لمن أساءوا لها في العلن، وترفعهم إلى مقام القيادة الاجتماعية، إنها المأساة الكبرى: أن نصحو يوماً لنجد بلادنا في قبضة التافهين.