تحقيق- طلال مدثر- لم تعد منطقة هجليج النفطية مجرد نقطة على خريطة الحرب في السودان بل تحولت خلال ساعات إلى اختبار عملي لأحد أغرب مشاهد التحالف في زمن الصراع فقد انسحبت القوات المسلحة بخطوة تبدو مدروسة من الحقل الاستراتيجي لتفسح المجال لجيش دولة جنوب السودان الدولة الوريثة لنفط المنطقة والقلقة على شريانها الاقتصادي الوحيد ليتقدم ويعلن حمايته.
تبدو الصورة للوهلة الأولى وكأن الخرطوم تنازلت عن سيادتها لكن قراءتها بعمق تكشف مناورة ذكية.. إنه إجبار للجار القلق على تحمل عبء حماية مصلحتهما المشتركة.. السودان يقول من دون كلمات لجنوب السودان ها هو نفطك فإما أن تأتي لتحميه هنا أو نخسره معاً.
لكن هذا المشهد ليس سوى ذروة قصة طويلة من الهجمات بالطائرات المسيرة وتهديدات بالإغلاق ومفاوضات مكوكية انتهت إلى “اتفاق شرف” طارئ بين الخرطوم وجوبا.
الآن يقترب وفد رفيع من جنوب السودان إلى بورتسودان مهمته تحويل هذا التفاهم اللفظي الهش إلى إطار عملي يوسع صلاحيات جيش الجنوب من مجرد حارس عند البوابة إلى مشغل شريك للمنشأة من الداخل.
هذا التحقيق يرسم خريطة الرحلة من حافة الانهيار إلى هذه الصفقة الغريبة ويكشف كيف أجبر تهديد انقطاع شريان النفط الخصمين السابقين على كتابة فصل جديد من التعاون تكون فيه الثقة المتبادلة في مواجهة الدمار هي العقد الوحيد الملزم
الخرطوم من “القوة القاهرة” إلى الإنذار الأخير وكيف نجت جوبا من صفعة الإغلاق
بدأ كل شيء بدماء على أرض الحقل في “28” أغسطس كانت الهجمة الثالثة بطائرة مسيرة تستهدف هجليج لتسقط ثلاثة مهندسين وعسكريين وتطلق صفارة الإنذار القصوى في أروقة وزارة الطاقة والنفط بالسودان.. كانت الرسالة واضحة وهي ان البيئة لم تعد آمنة.
وبعد يومين فقط تحول القلق إلى قرار حاسم.. أرسلت الوزارة خطاباً رسمياً إلى نظرتها في جوبا تعلمها فيه أن تكرار الاعتداءات يشكل “قوة قاهرة” تبيح بل توجب إغلاق الحقل تماماً.
هنا دق جرس الخطر الأكبر في العاصمة الجنوبية.. اقتصاد جنوب السودان الهش المعلق كلياً على هذا النفط الذي يمر عبر هجليج كان على شفا صفعة وجودية فانطلقت ما يمكن وصفه بـ “دبلوماسية الإنقاذ المكوكية” تحركت جوبا بسرعة البرق ووفقاً لمصادر متطابقة في القطاع النفطي من الجانبين قدمت ضمانات وتعهدات بأن الهجمات لن تتكرر.. استجابت الخرطوم وتراجعت مُعلقة قرار الإغلاق.
لكن هدنة “الثقة” هذه سرعان ما تهاوت فقبل أيام قليلة وصلت معلومات استخباراتية عاجلة إلى القيادة العسكرية السودانية في المنطقة تقول ان قوات مليشيا الـ دعـ م السـ ريـ ع تحشد وتستعد لهجوم شامل على هجليج.. لم يعد هناك متسع للكلام تحول الإنذار الدبلوماسي إلى أمر عسكري فوري بإخلاء الحقل الآن.. بدأت طائرات النقل بنقل الفنيين بعد وصولهم حقل الوحدة وفي نفس اللحظة أبلغت إدارة الحقل شركاءها الجنوبيين بالخبر الكارثي “اغلقنا المحبس وسنغادر”.. بدا مشهد الانهيار وشيكاً.
جوبا من صدمة الإبلاغ إلى غزو عسكري “ودي”.. ولادة اتفاقية الشرف في ساعات
لكن القصة لم تنتهِ عند حافة الهاوية بل انقلبت رأساً على عقب في مشهد لا يخلو من السريالية ففي غضون ساعات من تلقي نبأ الإخلاء لم تنتحب جوبا بل تحركت وكأنها تطلق عملية إنقاذ ذاتية.. أجرت اتصالات مكوكية مكثفة مع الخرطوم وخرجت منها بصيغة طارئة تقول جنوب السودان سيرسل فنييه على الفور وسيتولى تشغيل الحقل بدعم من الفنيين السودانيين الذين لم يغادروا بعد وهم عمال من الشركات السودانية التي لم تسحب كامل آلياتها والذين طُلب منهم البقاء رغم أنهم كانوا ينتظرون رحلات الإخلاء من حقل الوحدة للمساهمة في إعادة التشغيل كل ذلك لمنع “تجلط” النفط في الخطوط وإلحاق ضرر لا يُعوّض باقتصاد الجنوب.
لكن من سيقوم بحماية هؤلاء الفنيين في قلب منطقة صراع هنا برزت الصفقة الأكثر غرابة ففي اليوم التالي مباشرة الأربعاء الماضي دخلت قوات الجيش الشعبي لجنوب السودان إلى محيط هجليج لا بصفة غازية بل بصفة “قوة حماية” بموجب اتفاق تعاون نفطي وأمني قديم لكن الدور الجديد لم يكن مجرد حراسة لقد انتقل التفاهم تحت ضغط الساعات من “حماية المنشأة” إلى “حماية وتشغيل المنشأة” وُلد ما يصفه المطلعون بـ “اتفاق الشرف” “Gentleman’s Agreement” وهو تفاهم غير مكتوب بالكامل يعتمد على الثقة والضرورة أكثر من القانون حيث تقول جوبا للخرطوم “دعنا ندير لك حقل خطر عليك حتى لا نخسر نحن كل شيء”
بورتسودان من مذكرة التفاهم إلى “اتفاق الشرف”.. الوفد الآتي لترسيم حدود الثقة على أرض النفط
لكن هذه الخطوة لم تأتِ من فراغ بل هي تتويج دراماتيكي لاتفاقية أمنية غامضة بدأت تتشكل قبل أشهر ففي الأول من أكتوبر الماضي زار وزير خارجية جنوب السودان” مونداي سمايا” بورتسودان واتفق مع الجانب السوداني على “مذكرة تفاهم” كانت حجر الأساس ركزت تلك المذكرة على حماية المنشآت النفطية ومحطات الضخ لنفط الجنوب العابر للسودان وكان المنطق آنذاك يعكس طبيعة هذه المنشآت المتشابكة فحقل هجليج العملاق ليس كتلة واحدة فهو عبارة عن منشآت متقاسمة مناصفة بين البلدين جزءها الجنوبي يقع في ولاية الوحدة وجزءها الشمالي في هجليج نفسها لذلك نص التفاهم الأصلي على آلية دفاع مشترك إذا تعرضت المنشآت في الجانب الجنوبي ولاية الوحدة لهجوم تتدخل قوات البلدين لحمايتها وإذا أُستهدفت في الجانب الشمالي هجليج تنتقل القوة للحماية هناك لكن ذلك التفاهم اختصر دوره على “الحماية” فقط واستبعد تماماً مسألة “التشغيل”
الساعات القادمة يتحرك الوفد الجنوب سوداني إلى بورتسودان في مهمة أكثر جرأة وهي تعديل تلك الاتفاقية وتوسيعها والهدف هو تحويلها من إطار للحماية المشتركة إلى تفويض كامل يشمل الحماية والتأمين والتشغيل وما سيجري التفاوض عليه الآن وفق مصادر مطلعة هو تطوير ذلك الإطار القديم فقد اتفق الطرفان في أكتوبر بشكل ضمني على مبدأ “اتفاق الشرف” “Gentleman’s Agreement” لتنظيم الحماية المشتركة وهو نوع من التفاهمات كما ذكرنا يعتمد على الثقة والنية الحسنة أكثر من الإلزام القانوني وغالباً ما يكون شفهياً أو يُكتب في صورة مرنة كمذكرة تفاهم والآن يأتي الوفد ليحول هذا التفاهم الضمني القديم إلى إطار عملي موسع يضيف مهمة “التشغيل” إلى جوهره في خطوة تعترف بأن إنقاذ الاقتصاد المشترك في زمن الحرب يتطلب تجاوز النصوص إلى تعاون أعمق حيث يكون الضامن الوحيد هو الخوف المتبادل من الخسارة الكبرى.
هجليج: اتفاقية الجنتلمان على أرض الواقع.. جنود واقتصاد في منطقة رمادية
على الأرض، يتحول “اتفاق الشرف” الهش إلى واقع ميداني في قلب منشآت هجليج الأكبر في السودان، والتي تضم “75” بئراً ومنشأة معالجة مركزية تبلغ طاقتها “130” ألف برميل يومياً إضافة إلى القطاع “6” أكبر حقل إنتاج في السودان.
فالوجود العسكري الجنوب سوداني واضح والهدف المعلن من جوبا واضح ولا لبس فيه وهو منع “تجلط” النفط في الخطوط عبر استمرار الضخ وهي عملية فنية إن توقفت تُحدث كارثة اقتصادية لا يمكن للجنوب تحملها.
وبموجب الترتيبات الطارئة طالبت جوبا باستبقاء فنيين سودانيين من الشركات التي لم تسحب كامل طواقمها وآلياتها بعد، لضمان الاستمرارية والمعرفة المحلية.. وبينما تشير ترتيبات الاتفاق إلى بدء عمليات فنية طارئة بقيادة فنيين جنوبيين بدعم من تلك الأطراف السودانية فإن التفاصيل الدقيقة على الأرض تبقى جزءاً من التنفيذ المغلق لـ “اتفاق الشرف” نفسه.
الملموس الان هو أن الحقل قد تحول إلى منطقة محايدة عملياً.. يحرسها جيش الجار وتدير مصيرها الفني ضرورة اقتصادية واحدة وهي إبقاء الشريان مفتوحاً.
وهكذا تمكّنت المناورة السودانية عبر سحب جيشها ودفع جارتها للأمام من تحويل حقل هجليج إلى منطقة مُحايدة عملياً.. لقد نجحت الخرطوم مؤقتاً على الأقل في نقل عبء حماية وتشغيل الشريان الاقتصادي الأكثر حساسية إلى كاهن الشريك الأكثر قلقاً على استمراره جنوب السودان.. حوّلت الضرورة القصوى “اتفاق شرف” هش إلى واقع ميداني حيث تقف المصالح المشتركة كحصن أخير ضد الانهيار لكن السؤال الذي يلوح في أفق مفاوضات بورتسودان أكثر تعقيداً هل يمكن لهذا النموذج الاستثنائي حيث تقبل دولة بوجود جيش جارتها على أرضها مقابل حماية اقتصاديهما المشترك أن يتحول من ترتيب طارئ إلى صيغة مستقرة وهل ستثبت “الثقة المبنية على الضرورة” متانة كافية لتدبير أمر معقد مثل إدارة أكبر حقل نفطي في السودان بينما تدور رحى الحرب من حوله؟
بينما سيجلس المفاوضون يبدو أن الإجابة لا تُختزل في نصوص التفاهمات بل في ذلك المشهد العملي.. في هجليج محركات تعود للدوران بيد فنيين من بلدين تحت حراسة جنود من جيش ثالث.. إنها معادلة القرن الأفريقي الجديدة عندما تتعطل أدوات الدولة التقليدية تبتكر المصالح الحيوية طرقها الخاصة للبقاء ولو عبر حدود لم تكن متخيلة معتمدةً على أجهزة الإنعاش التي توفرها جاراتها.. ولو مؤقتاً.





