مقالات الرأى

عادل الباز يكتب … المسخ الرباعي: كيف فصلت أبوظبي البيان على هواها.؟

1
يهدف هذا المقال لتفكيك بيان الرباعية الذى تموضع بين التواطؤ، التزييف، والتدخّل الفجّ . اذ اننى منذ أن اطّلعتُ عليه… ظللتُ أعاين فيه وامشي واجيهو، راجعً ، متعجبًا متحيّرًا، ليس لركاكته ولا لاحتياليته فحسب، بل لأنه كشف لي خذلان الأشقاء بشكلٍ أثار عندى الغثيان، كما أدهشني حجمُ التآمر الإماراتي الذي عبّر عنه البيان، حتى يكاد يكون صادرًا من الخارجية الإماراتية، إذ حقّق كل أجندتها وما تتمناه. كما حوى تناقضاتٍ وارتباكًا مُدهشًا في كل فقرةٍ من فقراته، كما سنرى.
ما حيّرني أيضًا هو جهلُ الرباعيةِ التامّ بالمناخ السياسي، و العمى التام الذي أُصيبت به، فحجب عنها رؤية الوقائع والحقائق على الأرض، فأصبحت لا ترى إلا رغبات الإمارات وأهوائها، وتتَبنى أجندتها بلا حياء.
سأبدأ معكم قراءة هذا المسخ الرباعي من آخر سطر، يعني بالمقلوب… وهذا ما يستحقه. قبل ذلك انظر لهذا التدرّج في المواقيت:
يوليو 2025: تعثّر/سحب مسودة سابقة للخلاف بين أطراف الرباعية في واشنطن.

أواخر أغسطس: إحياء المسار خلف الكواليس مع تعديلات تجميلية.

سبتمبر 2025: صدور البيان بصياغة تحمل بصمات التنازلات التي حواها في نسخته “السبتمبرية”.
قال البيان في آخر سطر: «واتفق الوزراء على مواصلة مشاوراتهم في هذا الشأن خلال الاجتماع الوزاري الرباعي في سبتمبر (2025)».
تشي هذه الفقرة بأن البيان الذي أُعلن أمس الأول هو ذات البيان الملغى قبل شهرين في واشنطن، البيانُ الذي لم تتفق أطرافُ الرباعية عليه آنذاك. ودلّ على ذلك الإشارةُ إلى الدعوة للمشاورات بين وزراء الرباعية في ذات الشهر الذي صدر فيه البيان: «سبتمبر»، إذ كان يمكن التعبير عن ذلك بـ«الشهر الجاري»، ثم لا يُعقل أن تُصدر بيانًا أو مبادرة تعالج قضايا معقدة ثم تدعو لمشاوراتٍ حوله في أقل من عشرة أيام وبل معرفة رأى الأطراف التي سماها البيان “المتحاربة”!!
هذا الارتباك سببه أن التنازلات الكبيرة التي حصلت عليها أمريكا والإمارات من مصر والسعودية، وتضمّنها البيان الأخير، جعلتهما تُسارعان بإذاعة البيان المُعدّ منذ «شهر يوليو الماضي» دون أن يغيّرا تاريخه من الاستعجال.
هذه العجلة لم تأتِ من فراغ، ولكنها جاءت بسبب تقهقر ميليشيات الإمارات المُندحرة أمام جحافل الجيش في سهول كردفان وتخوم دارفور.
احتالت الإمارات على البيان المرفوض في يوليو بتنازلٍ شكلي( سنبينه لاحقا)، نالت به مُرادها من الأشقاء، فانحازوا لأجندتها كليًّا — للأسف، وأيضًا لأن كلفة الإبقاء على النص القديم صارت أعلى من تعديلِه شكلًا. تغيّر ميزان الميدان، فاستُدعيت صياغات إنسانية عامة لتسويق فرملة المسار العسكري، حين لم يعُد يخدم هوى من صاغ البيان.
3
في مفتتح البيان الأخير، تمت الإشارة أولًا إلى : «أسوأ أزمة إنسانية في العالم»، كأنما ذلك اكتُشف حديثًا، مع أن كل المنظمات في العالم وكل «الميديا» كانت تنبح حول هذه الأزمة، والعالم يتفرج، والمدن محاصَرة، والناس تموت بالجوع، والرباعية تتفرج؛ لم تفعل سوى إصدار البيانات ورمي الفتات على موائد النازحين واللاجئين.
منظمة اوشا (مكتب تنسيق العمليات الإنسانية التابع للأمم المتحدة) شكت بالأمس من أن تمويل العمل الإنساني في السودان يواجه عجزا ضخما بلغ 78% لتمويل عمليات الأمم المتحدة ….المبلغ المطلوب 4.2 مليار دولار خلال العام الحالى للنازحين داخل السودان وكل ماتوفر منه 22.9 % فقط لمواجهة الاحتياجات العاجلة !! ترى أين هؤلاء الانسانيين ؟…نحن على أبواب اقل من اربعة اشهر من نهاية العام لم يتكرموا بمليم لسدد هذا العجز!! ويحدثونك عن اسوأ ازمة انسانية في العالم.!!.المشكلة في جوهرها لا تتعلق بهدنة انسانية بل في عجز ما يسمى بالمجتمع الدولي وجديته في تمويل ما يسمونه وعلاج اسوأ ازمة في العالم مع الإشارة إلى أن كل المطلوب اغاثتهم موجودين في مناطق آمنه تسيطر عليها الحكومة السودانية ، هكذا تُستَلّ الان تلك المأساة الإنسانية كذبا لتصبح سلاحًا ومبررًا للتدخل.
لم يكتفوا باستخدام المأساة كغطاء للتدخل، بل ذهبوا إلى أن تلك المأساة التي صنعوها هم و صنائعهم «بالإطاري»، باتت تُشكّل خطرًا على السلام والأمن الإقليميين!!. منذ متى، يا ترى، شكّل ذلك النزاع خطرًا على الأمن الإقليمي؟ حين كان السلاح يتدفق على الميليشيا من تشاد وليبيا وجنوب السودان، بصحبته الآلاف من المرتزقة، والميليشيا تحتل نصف السودان، لم يكن ذلك النزاع يشكّل أي تهديد على الأمن الإقليمي ، ولكن حين اندحرت الميليشيا الآن… أصبح النزاع يُشكّل تهديدًا للأمن الإقليمي!
وين كنتوا من زمااان؟ ما شفتوا كل التقارير الإعلامية وتقارير المنظمات؟
كله كان تحت أبصاركم، ولكنكم لذتم بالصمت، حين كانت الميليشيا منتصرة وتفعل ما تشاء، ولكن بعد انتحارها، عاد إليكم بصركم، فهو اليوم حديد. فتحوّل النزاع لمهدِّدٍ للأمن والسِّلم الإقليمي!!
4
وبناءً على هذه الأباطيل، تأسّست دعوتهم للحل …لكن كيف؟ بقائمةٍ تضم خمسة بنودٍ تضحك من شدّة احتيالها وسذاجتها.
لنبدأ بالبند الأول الذي ينصّ على:
«إن سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه ضرورية لتحقيق السلام والاستقرار».
هذا البند تعرّض للاحتيال والتغيير بشكلٍ فاضح، نتيجةً للضغوط الإماراتية؛ إذ كان في المقترح الأول المرفوض في يوليو يتحدث عن “مؤسسات الدولة السودانية” — والمقصود بها المؤسسة العسكرية تحديدًا — تجنّبًا لمساواتها بالميليشيا.ولكن للأسف، تم التنازل عن ذلك، وتحوّل النص إلى حديثٍ عامٍّ وغائم ومعلومٍ بالضرورة حول السيادة ووحدة الأراضي السودانية — وهذا ليس موضوع نزاع أصلًا — وتم ذلك لفتح الطريق والتمهيد لتسويةٍ سياسية بين ما تعتبره الرباعيةُ قوتين عسكريتين (الجيش والدعم السريع) متنازعتين ومتساويتين في كل شيء، بهدف نزع معيار الشرعية عن الحكومة المعترف بها دوليًا، لتصبح هناك قوتان متماثلتان، لا دولة ومليشيا. أرأيتم كيف يتم الاحتيال في النصوص وتزييفها تحت ضغط المال الإماراتي؟!
5
ثانيًا: «لا يوجد حلٌّ عسكريٌّ قابلٌ للاستمرار للنزاع، والوضع الراهن يخلق معاناةً غير مقبولة ويهدد السلام والأمن».
منذ متى؟ مثل هذا الهراء كان يُقال منذ اندلاع الحرب ولكن ماذا فعلت الرباعية حين كانت الميليشيا تتمدد بطول البلاد وعرضها؟وقتها، كان الحل العسكري مقبولًا لتذهب القواتُ المسلحةُ والشعبُ السوداني لطاولة المفاوضات، راضخين مستسلمين للميليشيا، وهي تملي عليهما شروطها لأنها تفرض سيطرتها العسكرية عليهما آنذاك ووقتها، كان ذلك الحل مقبولًا؛ أما الآن — وهي مهزومة، وللقوات المسلحة اليدُ العليا عسكريًّا — أصبح ذلك الحل غير مقبولٍ ومُدانًا، ومستحيلًا أن يكون لهذا النزاع حلٌّ عسكري…أستغرب: كيف يمكن خداع الشعب والعالم بمثل هذه الترهات؟! وكيف يستقيم ذلك، أيها المنافقون بلا حياء؟!
6
ثالثًا: «يجب على جميع أطراف النزاع أن تُيسّر وصولَ المساعدات الإنسانية بشكلٍ سريعٍ وآمنٍ ومن دون عوائق في جميع أنحاء السودان وعبر كل الطرق اللازمة، وأن تحمي المدنيين وفقًا للقانون الدولي الإنساني والتزاماتهم بموجب إعلان جدة، وأن تمتنع عن الهجمات الجوية والبرّية العشوائية على البنية التحتية المدنية».
انظر كيف ارتدّوا هنا إلى نصوص إعلان جدة؛ تلك النصوص التي مهروها بتوقيعهم، والعالمُ كلُّه شهود، ولكنهم عجزوا — إبان انتصارات الميليشيا — أن يُلزموها بتنفيذ حرفٍ واحدٍ منها والآن يعودون إليها كاملةً كأنها اكتشافٌ جديد! اخترع العجلة!
7
رابعًا: «إن مستقبل الحكم في السودان يقرّره الشعبُ السوداني من خلال عمليةٍ انتقاليةٍ شاملةٍ وشفافة، ولا تسيطر عليها أيٌّ من الأطراف المتحاربة».
شوفوا الاحتيال على أصوله…
إذا كان مستقبلُ السودان يقرّره الشعبُ السوداني، فلتتركه الرباعيةُ له ليقرّر، ولا تفرض عليه أن يستبعد أو أن تسيطر عليه الأطرافُ المتحاربة.
فقد يقرر الشعبُ السوداني أنه يريد الجيش أن يبقى في الحكم إلى ما شاء الله، مُسيطرًا على الحكم — وهو أحدُ الأطراف المتحاربة — فلماذا تُقرّر الرباعيةُ بالنيابة عنه؟عايزين حكم العسكر؟! انتو مالكم؟عايزين يحكمونا الجنجويد؟ انتو مالكم؟ يعني هذا النص يمنح باليمين ما يسرقه الشمال.
8
خامسًا: «إن الدعم العسكري الخارجي لأطراف النزاع في السودان يؤدي إلى تصعيد النزاع وإطالة أمده ويُسهم في عدم الاستقرار الإقليمي، وبالتالي فإن إنهاء هذا الدعم العسكري الخارجي أمرٌ أساسيٌّ لإنهاء النزاع».
هذا البند، الذي هو أساس كل النزاع والقصة، وُضع كآخر بند في البيان، باعتبار أنه ليس مهمًّا، لأنه يمسّ الإمارات مباشرة، في محاولة لتغطية الجريمة التي ترتكبها الإمارات — لا سواها — في هذه الحرب، بدعمها لميليشيا الجنجويد.
إذا كان إنهاء الدعم العسكري الإماراتي أساسيًّا في النزاع، وإيقافه يُنهي الحرب — وهو فعلاً كذلك — فليكن هو مبتدأ البيان ومنتهاه.ولكن لا، لابد أن “يتدغمس” ويُترك هكذا غائمًا، ليتوهم الناس أن هناك آخرين يدعمون استمرار الحرب غير الإمارات.
كان المحلل الأمريكي كاميرون هدسون محقا تماما حين قال في تغريدته أمس ( من المعروف أن الإمارات العربية المتحدة، المزود الرئيسي للدعم العسكري، قد أنكرت بشد أنها لا تفعل ذلك، ولهذا ما لم تعترف الإمارات العربية المتحدة علنًا بما كانت تفعله عبر تشاد وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وبونتلاند لتهريب الأسلحة إلى قوات الدعم السريع، فإن هذه الوثيقة بأكملها ستصبح غير شرعية. إذا لم يُعترف بالكذبة الكبرى التي هي جوهر الحرب، وظلت محور هذا البيان السياسي، فإن هذا الأمر برمته مجرد مهزلة دبلوماسية) وهو بالفعل مهزلة سياسية ودبلوماسية!!.
الغريب أن الدول المتّهمة بأنها تدعم الجيش بصًمت على البيان بكل ما فيه من سوء، رغم أن دعمها المتوهم لا يكاد يُرى بالعين المجردة، أما الدعم الإماراتي، فله معسكرات في ثلاث دول لأجل جلب المرتزقة، ومئات الطائرات تجلب الأسلحة الفتاكة والمسيّرات علنًا، وعبر مطارات عدة دول، والسفن المحمّلة بالأسلحة تعبر الموانئ رغم الحظر الدولي إلى السودان!!
9
بناءً على تلك الأكاذيب التي سمّوها مبادئ، قدّمت الرباعية رُوشتها المسمومة لحل النزاع.في الحلقة المقبلة من هذا المقال، أفكّك بنود «الحل» المقترح بندًا بندًا: من “وقف إطلاق النار المنزوع الأسنان”، إلى “الانتقال” الذي — بحسب الروشتة — تُسلب فيه كل حقوق الشعب وكرامته… كيف؟ نواصل…
.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى